لاتزال الإرهاصات الأولى للاحتلال البريطانى لمصر الذى بدأ طريقه من الإسكندرية باعتبارها مدينة ساحلية تحمل العديد من الخفايا والقصص المثيرة التى تتكشف يوما تلو الآخر، خاصة مع ظهور وثائق ومستندات جديدة سواء من الجانب المصرى أو البريطانى لتضيف معلومات جديدة فى سجل التاريخ المصرى حول كيفية دخول الإنجليز مصر واحتلالها لفترة قاربت على 75 عاماً شهدت مصر خلالها العديد من الاضطرابات والاحتجاجات والثورات التى أفرزت أبطالاً وزعماء سياسيين بداية بأحمد عرابى ومروراً بمصطفى كامل وسعد زغلول ومصطفى النحاس حتى قامت ثورة يوليو التى قادها «الضباط الأحرار».
مكرم سلامة، أحد أشهر جامعى الوثائق النادرة يروى لـ«إسكندرية اليوم» قصة حصوله على وثائق جديدة تروى الساعات الأولى لضرب الإسكندرية التى دمرها الاحتلال البريطانى وأمطرها بما يقرب من 3200 قنبلة و3300 رصاصة وفق وثائق «نادرة» قال إنه حصل عليها من بائع الروبابيكيا والأنتيكات.
قال «مكرم»: قصة هذه المستندات تبدأ تحديداً فى 11 يونيو 1882، وتحديداً فى الساعة الثانية ظهراً، إذ تؤكد تشاجر مكارى «عربجى» مصرى ورجل «مالطى» فى أحد الأزقة قرب مقهى يدعى «قزاز» بآخر شارع بحرى بك، عند تقاطعه مع شارع إبراهيم الأول (شارع السبع بنات حالياً) الذى يبدأ من ميدان محمد على وينتهى قبيل قسم شرطة اللبان، وقيل وقتها إن هذه المشاجرة «مفتعلة» بغرض إحداث اضطرابات من قبل الإنجليز فى الإسكندرية لتبرير دخولهم المدينة بهدف حماية الأجانب بها، وإثبات «عجز» أحمد عرابى، خاصة أن الرجل «المالطى» الذى قتل العربجى كان شقيقاً لخادم السير تشارلز كوكسن، قنصل إنجلترا فى الإسكندرية ونائب قنصلها العام فى مصر.
وتابع: تزامن مع هذه الأحداث قيام عدد من الأوروبيين المقيمين فى الإسكندرية بإطلاق النيران على المصريين من نوافذ بيوتهم فى المنطقة واضطرب الأمن، وتم قتل الكثير من المصريين والأوروبيين الذين بدأوا فى النزوح عن المدينة، حيث بدأ سيمور قائد الأسطول الإنجليزى المرابض بالقرب من سواحل الإسكندرية ينتظر أن تحين الفرصة لضرب المدينة، وأبلغ وزارة البحرية البريطانية أن العرابيين عادوا إلى تقوية التحصينات البحرية فى الإسكندرية بنشر بطاريات مدفعية فى الطوابى، وتوالت بعدها تهديدات سيمور بضرب المدينة واحتلال طوابيها.
وأشار إلى أن الوثائق التى حصل عليها تحتوى على تفاصيل عن بدايات قصف المدينة، خاصة أنه فى الساعة السابعة من صباح يوم الثلاثاء 11 يوليو 1882، بدأ الأسطول البريطانى بقيادة سيمور بضرب الإسكندرية واستمر ذلك حتى السادسة مساء، وتم قتل ما يقرب من 700 مصرى وجرح 500، وأطلقت بارجة «إلكسندرا» أولى قنابلها على طابية «الاستبالية» وتوالت بعدها الضربات، حيث بلغ ما تساقط على المدينة فى هذا اليوم 3200 قنبلة و3300 رصاصة.
وحول الخسائر التى ترصدها الوثائق، قال مكرم: تهدمت سراى رأس التين وكثير من البيوت، خاصة ما كان منها جهة محطة الإسكندرية، لأن كثيرا من المقذوفات كانت موجهة لطابية كوم ديماس «كوم الدكة» التى كان بها أحمد عرابى فى هذه الأثناء مع جميع الوزراء للإشراف على مواقع القتال، كما تضررت بعض منازل الأوروبيين فى المدينة وسقطت قذائف على المستشفى الفرنسى وحديقة دير الفرنسيسكان وبلغ ما تهدم من الحى الأوروبى ما يقترب من 100 ألف متر تقريباً.
وأضاف: كتب جون نينة يقول «تم تدمير 14 طابية أشهرها طابية الدخيلة والمكس والقمرية والسلسلة وقايتباى والاستبالية والعجمى ورأس التين، وشارع شريف وكل الشوارع الخارجة من ميدان محمد على، بالإضافة إلى هدم وكالة الفرنسيين والمقهى الأوروبى ووكالة نوبار باشا والقنصلية الفرنسية ومبنى البوستة الإيطالية وأربع فيلات فى شارع محرم بك، ومع ذلك أثنى جون نينة على شجاعة المدافعين المصريين وأرجع هزيمتهم إلى فرق التسليح بين الجانبين».
وحول عمليات إعمار المبانى والمنشآت والأحياء التى تم هدمها قال: بعد توقف القصف بدأت عملية الإعمار بشكل مكثف، وشارك فيها المعمارى الإيطالى «أنطونيو لاشاك» بداية من عام 1882 حتى عام 1888، وشارك فيها المهندس المعمارى الإيطالى ألفونسو مانيسكاكو، الذى ساهم فى بناء العديد من الأجزاء فى شارع شريف وظهرت فى أعماله طابع العمارة الإسلامية، كما نزل إلى المدينة بعض البحارة الأمريكيين والروس واليونانيين للمساعدة فى إطفاء الحرائق.
وأضاف: كان عرابى فى هذا التوقيت مع النظّار فى طابية كوم ديماس التى تسمى حاليا كوم الدكة للإشراف على القتال، وكان الخديو توفيق خلال القصف مقيماً فى سراى الرمل.
وحول كيفية حصوله على هذه الوثائق قال: هى مجموعة من الوثائق كانت موجودة لدى تاجر تحف وموبيليا موضوعة فى كرتونتين، وعندما فرزتها جيداً وجدت بهما مجموعة من التوكيلات، بعضها حمل توقيع عدد من عظماء الأمة ورموزها وقتها، لتفويض أحمد عرابى ومنحه الثقة وفى الوقت نفسه يطالبون بعودته إلى وزارة الحربية، وهذه الوثائق والتوكيلات كانت موجودة لدى إحدى الأسر التى باعت الموبيليا، ومن بين الأشياء التى تم بيعها كان يوجد هذه الكرتونة الممتلئة بالوثائق، مشيراً إلى أنه حصل على هذه المستندات فى عام 1998 تقريبا، نافياً علمه بإمكانية وجود أصل لهذه الوثائق والمستندات فى الواقع من عدمه.
وتابع: كان من أكثر المشاهير الموقعين على هذه التوكيلات يعقوب باشا وبطرس باشا غالى، وزير الحقانية، والشيخ عبدالقادر التلمسانى، عضو المحكمة الشرعية الكبرى، وعلى الروبى، وكيل وزارة الأقاليم الكبرى السودانية، وحسن باشا الدرمالى وكانت التوكيلات تشمل العديد من العائلات المهمة والمشهورة وعدداً من التجار ونقيب السادة الأشراف فى دمياط، وفى القاهرة، منهم الشيخ إبراهيم باشا، إضافة إلى توقيع حاخامات الطائفة الإسرائيلية ووكيل الأقباط الكاثوليك.
وأرجع كثرة وكلاء النظارات «الوزارات» الموقعين على التوكيلات إلى وقوفهم فى جانب عرابى قائلا: كانوا بالفعل من وكلاء الوزارات (النظارات) لأن الوزارات كانت تتبع الخديو وقتها، وهذه الوثيقة تم إرسالها إلى الخليفة فى الأستانة ولم تذهب وثيقة جمع التوقيعات الخاصة بعرابى إلى الخديو أو الوزراء لأنهم كانوا موالين للخديو، فى حين كان وكلاء الوزارات مع عرابى منهم 6 وكلاء نظارات منهم إسماعيل باشا وعلى بك، وكيل وزارة المعارف وفهمى باشا، وكيل وزارة الأوقاف، وبطرس باشا، وكيل وزارة الحقانية، ويعقوب باشا، وكيل وزارة الجهادية، وحسن باشا، وكيل وزارة الداخلية، وعلى الروبى، وكيل حكمدارية السودان، وهم الموقعون الأساسيون على الوثيقة والتوكيلات.
وفسر «سلامة» التوقيعات والتوكيلات التى جمعها عرابى على أنها إقرار بتفويض الأمة كلها وإنها اجتمعت بعظمائها ورجالها ومسلميها وأقباطها ووقّعوا على وثيقة تأييد لأحمد عرابى، وكان من بينهم مسؤول الحكم فى السودان وطالبوا خلالها بعودة أحمد عرابى.
وقال: عندما وجدت هذه المستندات والوثائق النادرة التى تحكى جزءاً مهماً من تاريخ المصريين شعرت بأن الأمة قوية وقتها وتحديداً عام 1882، وأن الشعب المصرى كان لديه القدرة على التغيير بدليل أن نفس القصة حدثت عام 1919 مع سعد باشا زغلول عندما اجتمعت الأمة عليه وجمعت توقيعات تطالب بأن يتحدث باسمها أمام الإنجليز.
وتابع: هذه التوكيلات كانت بعد ضرب الإسكندرية من قبل الإنجليز، حتى إن عرابى دافع عن المدينة وحاول بما استطاع من قوة وإمكانيات كانت متاحة أمامه، لكن تكاتف عليه بعض الخونة من أعوانه حتى تم القضاء عليه.
وأكد «سلامة» أنه بعد حصوله على هذه المستندات قام بحفظها وإهدائها إلى مكتبة الإسكندرية التى قامت بعمل نسخة رقمية منها، مبررا ذلك بقوله: «هما ناس محترمين بيدفعوا التكلفة والمصاريف التى تكلفتها وبياخدوا صور للمشروعات الخاصة التى يقومون بها وبيساندونى بلا حدود»، مشيراً إلى أن أهم المصادر التى يعتمد عليها فى جمع الوثائق «الزبالين» وتجار التحف- وفق قوله.
وحول أبرز الخطابات والوثائق التى وجدها، قال إنها تتمثل فى خطابين من عرابى موجهين لحكمدار الإسكندرية قبل ضربها، وكان أحدهما فى 29 شعبان والآخر فى 8 رمضان طلب منه فى أحدهما «ألا يخالف القوانين العسكرية وعدم النهب وأن الأمور الصغيرة فى الحرب تعد من (الكبائر)، وأن المحافظة على الأموال والناس بمختلف أديانهم ومذاهبهم هى واجب عليه»، والخطاب الآخر قال فيه إن الخديو استنصر الإنجليز وضرب حصون الإسكندرية واستنكر موقف الخديو، وقال إنه أهان المصريين وكان يسعى للتأكيد فى خطابه على أن الأمة اجتمعت بعلمائها على قرار واحد وهو وجوب القتال.
وحول هواية جمع الوثائق وما إذا كانت تمثل عملاً لكسب الرزق قال: لا تخرج عن كونها هواية، لأن جامعى الوثائق يجوبون البلاد كى يجمعوا الوثائق والمستندات والأوراق القديمة والمقتنيات من التجار فى القاهرة، إحنا بنشوف الورق ده له قيمة لكن فى نفس الوقت الزبال بيشوفه بلا أى فائدة أو قيمة ويسعى للتخلص منه لأن شركات الورق تقول له إن الورق الأصفر القديم خال من السليلوز وبيعوم فوق الورق عند إعادة تدويره وبيدوّرا على أى شخص يشتريه».
وحول أكثر الوثائق غرابة التى قابلها قال: «مجموعة وثائق عرابى لأن هذه الأوراق والمستندات كلها منشورة فى كتب، وكان من بين وكلاء الوزارة الذين وقّعوا على التوكيلات بطرس غالى، وكيل الحقانية، ويعقوب باشا، وكيل الجهادية، وهما نفسهم كانوا ماسكين تحقيقات عرابى لكنهم فى الأصل كانوا مؤيدين له». وتابع: اشتريت 33 وثيقة من منزل فى جاردن سيتى ودفعت فيها 700 جنيه وأهديتها لـ «المكتبة» فيما بعد منها وثائق من عام 1860 حتى عام 1890 وأهديت جزءا منها لدار الوثائق القومية. وأضاف: فى إحدى المرات اشتريت 70 طن ورق من المحكمة المختلطة وعرضتها على الدولة، وكان فيها تاريخ المحكمة كله لكن الدولة رفضت أن تشتريها لأن القانون لا يسمح بشراء الوثائق والمستندات حتى لا تكون مدخلا لتجارة الوثائق وتسريبها من مكانها لبيعها، وأنا عرضتها لتقييمها وظلت معى لمدة 5 سنوات وبعدها صادرتها الدولة منى».