على أحد مقاهى وسط البلد جلس على مقربة مِنى مجموعة من طلبة الثانوى. انهمك الشباب الصغير فى لعب الطاولة وتدخين الشيشة مُحدثين ضجيجاً لا حدود له. وسط هذه الحالة الصاخبة سمعت أحدهم يشتم زميله قائلاً: يا ابن المرة.
لم تكن المرة الأولى التى أستمع فيها إلى مَن يستخدم هذا التعبير باعتباره سباباً جارحاً، إذ إننى أسمعه طوال عمرى فى الشارع المصرى.. مع العلم بأن هذه الشتمة لا وجود لها بأى بلد عربى، حيث إن المرأة لديهم يقال لها «مَرَة» دون أن يكون للفظ أى وقع سيئ، وذلك على العكس مما هو الحال فى مصر بعدما تحرّفت كلمة امرأة لتصبح فى طبعتها الجديدة «مَرَة» كلمة نابية لا تُستخدم إلا فى خناقات الحوارى. سرحت فى تأمل غرابة أن يُشتم المرء بأن يقال له إن من أنجبته امرأة!.. أَوَليس من الطبيعى أننا جميعاً قد خرجنا للعالم من رَحِم النساء، فما الجديد فى أن يكون الشخص ابن امرأة، ومن الذى ابتدع فكرة أن تذكير المرء بهذه الحقيقة الكونية يعد إهانة؟. الحقيقة أن المجتمعات كلها بشرقيّها وغربيّها لا يحلو لها أن تسبّ بعضها بعضاً إلا بإدخال المرأة فى الموضوع وبالذات الأم، ومن يتأمل الشتائم الغربية كما نراها فى الأفلام يجدها متصلة اتصالاً وثيقاً بالمرأة وأعضائها، وأما هنا فى بلاد العرب، فقد أبدع القوم وأدخلوا الأخت فى الموضوع علاوة على الأم، ليجعلوا الإهانة أكثر إيلاماً. ولعل حساسية الناس فى بلادنا لشتائم من هذا النوع على نحو يفوق حساسية الغربيين لنفس الأمر، تعود إلى أننا اختزلنا الشرف فى أعضاء النساء ولم نعد نرَ ما يجرح الرجولة والكبرياء أكثر من أن تُمَسّ إناث العائلة أو الحارة أو القبيلة.. الناس هنا على العكس من الناس فى بلاد الغرب، لا ترى الكذب ماساً بالشرف ولا تنظر للرشوة على أنها جريمة تُفقِد المرء الاعتبار بين أهله، وطبعاً تتعامل مع التهرب من دفع الضرائب باعتباره قمة الفهلوة والجدعنة، وقد يقوم المرء هنا بالتهرب من التجنيد وبالشهادة الزور وأكل مال اليتيم دون أن تواجهه نظرات الاحتقار فى الشارع، لكن لو أن أخته شوهدت بصحبة ابن الجيران، فإن مصيبة تكون قد لحقت به فيمشى مجللاً بالعار، وقد يجد نفسه مضطراً لإراقة دماء أحب الناس إليه حتى يستطيع أن يرفع رأسه وسط الأوساخ المرتشين من أقاربه وجيرانه!.. ولعل تفضيل الناس خِلفة الذكور على الإناث عائد إلى الخوف من الفضيحة التى تسير- بتصورهم- فى ركاب البنات أينما ساروا، أما الذكور فمهما فسقوا وسرقوا وخانوا فإن ما يفعلوه لن يكون جالباً للعار!. وقد يكون التمسك بالشرف الزائف فى مجتمعاتنا المستبدة عائداً إلى تشجيع الحكام للناس على الأخلاق الفالصو التى تُبعدهم عن التفكير فى الحقوق المهدرة والأموال المنهوبة، ولأن بروز القيم الرفيعة كقيمة احترام العمل والوفاء بالوعد وحُرمة المال العام قد تكون جالبة لقلاقل لا تريدها السلطة!
المهم أننى بعد أن استمعت لنفس السباب يتكرر على لسان الفتى قلت له: يا بنى.. أَوَلَيست أمك أنت أيضاً امرأة؟ فقال: يا عمو.. عندما قلت له يا ابن المرة، فإننى كنت أقصد والده لا والدته!