x

علاء الغطريفي الأستاذ فى كلمة أخيرة: السلطة ستظل للجنرالات! علاء الغطريفي الخميس 18-02-2016 21:43


وقفنا على بابه لنتعلم هذه المهنة، فقد كان شيخ طريقتنا، نتوجه إليه دوماً، فهو عنصر الأمان الفكرى، حسب تعبير الدكتور مصطفى الفقى، هو قبلة لهؤلاء المريدين الذين يسعون للفهم والثبات والاستشراف لهذا المستقبل، حتى وإن كان زمانه قد ولى، وأيامه قد ذهبت، وحكاياته من الماضى، حتى وإن كان قد استأذن سابقاً فى الانصراف، هذه الحكمة التى كانت تمشى على قدمين، تبعث إلى نفسك مشاعر الدهشة والعجب واليقين أيضاً بأن هناك بشراً لم يكونوا مثل الآخرين، فهم آيات لرب السماء، عقول نيرة وذاكرة حديدية وصلابة مثل جبال راسيات، إدراك وسعة اطلاع وذكاء لا تحده حدود، ينقلك إلى عالمه دون أن تدرى، مثلما يفعل «زيوس» من على جبال الأوليمب، فهو يصنع المسار وتجلس لتشاهد أو تستمع، كأنك فى جلسة لطقس سحرى، يستلبك فيها فتنصت كثيراً حتى تتحول إلى أذنين كبيرتين، فهنا اللحظات دقيقة، وقد لا تأتى مرة أخرى، أنت فى حضرة الأستاذ بلا مبالغة، فلن تستطيع تشفير مشاعرك أو تمنحها إجازة أو تدعوها إلى لحظة ثبات أمام تدفق هذا الرجل، فأنت مستلب دون إدراك، حتى ولو كنت مختلفاً معه، مستلب بهذا التداعى للأفكار، حتى وإن أزعجتك الهوامش أو طالت شروح الفكرة أو تهت وسط زحام المتون والمواقف، أنت معه لست أنت.. كما قلت أنت أذنان كبيرتان..!

قبل ثلاثة أشهر تقريباً ذهبنا هناك لأنه أراد أن يستمع إلى رؤية شباب المهنة لما يدور فى مصر، عن السياسة والمهنة وأوضاع البلاد، يريد أن يسمعنا فقط، فتدخل الأستاذان عبدالله السناوى وأيمن الصياد لتصبح الجلسة حواراً بيننا وبين الأستاذ، أى أن نسمعه ويسمعنا، وقد كان، وطلب من البداية أن يكون حوارنا معه ليس للنشر، فدوناه فقط فى الذاكرة، هو يرغب فى الاستماع إلى وجهة نظر شابة فيما يدور على الساحة، ومن ثم مستقبل البلاد، تعامل معنا بحاسة الصحفى الذى يريد المعرفة، وليس المحاضرة لتلاميذ هم فى الأساس جاءوا ليتعلموا شيئا أو يسمعوا نصيحة أو يدركوا حكمة غابت عن المشهد، التوقعات كثيرة وذروتها أن تستهدى برأى يعطى أملاً فى ظل إلحاح اللحظة وغياب الرؤية..!

180 دقيقة كانت سجالاً لم تخل من النقد العف واللين لحماسة ظهرت فى بعض الأوقات، وأحكام قطعية من بعضنا لم تعجبه أو لم تصادف هواه، أو خالفت ما يحمل فى جعبته من معلومات مع إشارات بأننا لابد أن نقرأ تاريخنا حتى نستطيع أن نحكم على الواقع، لم نغضب فقد كنا ننتظر أن يدفع إلينا مثلما يفعل حامل البيانولا بـ«صندوق الدنيا» لنرى ما لا نرى، أو نسمع ما لم نسمع، هكذا كانت التوقعات دائما من الأستاذ.

«السلطة فى مصر ستظل للجنرالات»، قال تلك العبارة رداً على ما أثاره أحد الزملاء عن مستقبل الحكم فى مصر، ولم يوارب أو يسعى إلى تجميل، رغم أنه لم يتشارك مع آراء كثيرة ناقدة عن أوضاع البلاد، فقد حاول التزام الإنصاف، بل وعاد بنا إلى جادة النظر إلى ظروفنا وما آلت إليه أحوالنا عبر العقود الماضية، فليس الأمر يتعلق بسلطة فقط بل، وبمجتمع أيضاً، هكذا قال وهكذا ردد، فلم يحاول شيطنة مؤسسة أو طريقة إدارة، بل شعرنا بأنه يتقاسم معلومات تتعلق بثقل المهمة التى يحملها السيسى فى إدارته للبلاد.

قال إنه يألف مصطلح «الطبقة العازلة» فى أى ديوان حكم فى مصر، لأنه رآها من أيام مصطفى النحاس، المباشرة منه لم تكن رداً أكثر منها تأكيدا على أمر بدا أنه يعلمه كما يجلس أمامنا، لم ندرك هل ينتقد أم يستنكر أم يرفض، فقد قالها بلهجة محايدة..!

وكأننا نحرق أوراقنا أمامه ليرمى دائماً الكرة فى ملعبنا، ولسان حاله أنتم الذين ستغيرون، أنتم المسؤولون، أنتم المستقبل، فإن باشرته بطلب النصيحة يرفضها بأدب فهو لا يرغب فيها لأن زمانه ولى كما قال، والدنيا وراءه وليست أمامه، ويسأل ماذا يرى أى حاكم فى بلد جرف بانتظام طوال 30 عاما، فماذا سيرى؟ لن يرى سوى أطلالا وأشباحا، الحكمة ألزمته توازنا قاطعه تدخلات من الأستاذ عبدالله السناوى ومداخلات من الأستاذ أيمن الصياد، حاولا خلالها أن يدفعا إلى شرايين الحديث دماء أخرى، لكن باقتضاب غلفه أدب جم لينال الشباب فرصة أكبر للحديث.

شعرنا بأنه لا يبتغى رومانسية فلاسفة، أو مباشرة خطاب، بل هو يسعى للفهم بعقل، اعتبر أن الصحافة المصرية متراجعة، وأخذ فى ضرب الأمثلة التى لخصها فى سؤال عريض «هل هناك أى رئيس تحرير فى مصر يتصل أو يتواصل برئيس تحرير الجارديان أو الإندبندنت أو أى صحيفة فى بريطانيا؟ هل يذهب أحدهم إلى نادى الصحافة فى لندن ليلتقى بصحفيى العالم ليتعرف على تطورات المهنة ويحتك بمدارس صحفية أخرى؟ لم نجب، فقد أغرقنا فى دوامته، وواصل حديثه عن الحالة البائسة التى عليها الإعلام المصرى. من هنا ذهبنا لقصة أخرى ترتبط بنفس الحديث، تتعلق بمؤسسته التى دربت كثيراً من الصحفيين منذ إعلان تأسيسها عام 2007- كاتب السطور تلقى التدريب فى أول مجموعة تخرجت فيها- فلم يخف الرجل حزنه أن الأنشطة توقفت بعد الضجة التى أثارها ضيف المؤسسة «وزير الخارجية البريطانى الأسبق، ديفيد أوين، عام 2009 عن حرب أكتوبر»، فكان رد كاتب السطور «لنبعد الشأن المهنى عن الشأن السياسى»، فقد كنت فى الدفعة الأولى التى تدربت فى مؤسسة هيكل، وحصلنا على تدريب راق طوال شهر كامل، ومعظم من حصلوا على التدريب تفوقوا فى المهنة وأضاف إليهم التدريب كثيراً، وهنا ساند وجهة نظرى الأستاذ أيمن الصياد فقد كان شاهداً على التدريب، بل وردد معى أسماء زملاء أعزاء تطوروا وحققوا نجاحات فى الصحافة، وهنا كان الاقتراح أن يذهب بعض من هؤلاء للأستاذ ليتعرف عن قرب إلى ما حققوه لكى يعيد نشاط المؤسسة مرة أخرى، ليستفيد بها صحفيو مصر فى وقت يحتاجون فيه إلى السباحة حتى شواطئ المهنة، بل وقال إن الوديعة للإنفاق على المؤسسة كما هى، ولم تسعفنا الظروف لهذا اللقاء بسبب تقصير من كاتب السطور وانشغال الزملاء، ومن هنا أدعو عائلته الكريمة أن تكون المؤسسة هى «العلم الذى ينتفع به» كما قال رسولنا الكريم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.

عند سؤاله عما يشاهد على الشاشات أشار إلى الأستاذ عبدالله السناوى قائلاً: أشاهده عندما يكون عبدالله ضيفاً. الكيمياء التى تربطه بعبدالله السناوى بدت على وجهه، فحتى فى لحظات المقاطعة لفكرة أو حديث كان يأنس برأيه أو تدخله لإيضاح هنا أو هناك، المباريات الفكرية شديدة المتعة إذا كنت فى حضرة أستاذ مهنته الأفكار، الفرجة مثل استخراج الماس من فوهات البراكين، لن تشعر بالوقت الذى يمر، فالإحساس بأن هذه الجلسة قد تكون أخيرة جعلنا نعادى تلك الدقائق التى مرت.

ضحك ضحكة من القلب وهو يتذكر أيام الاعتقال عام 1981، فحكى ما دار بينه وبين المرحوم فتحى رضوان، المفكر والزعيم السياسى، فقد كان يبكى رضوان أمامه فانزعج هيكل وسأله: لماذا تبكى؟ هل تبكى على أن أحد أقرباء- أحد رفقاء السجن من أعضاء حزب الوفد لم يتذكر الأستاذ اسمه- توفاه الله، فرد رضوان: بل أبكى على ما نحن فيه، وهنا ربط بين هذا الاقتباس المعبر عن الحزن ليربط بينه وبين ما وصلت إليه أحوالنا.

انتهت الجلسة، وطلبنا التقاط صور تذكارية للأستاذ الذى احتفظ بسيجاره الشهير، حاولنا أنا والأستاذ عبدالله السناوى أن نساعده على القيام من على كرسيه، فرفض بصلابة رأيتها فى عينيه، وكأنه يقول «لم أفقد القدرة على الوقوف بمفردى»، وتساند إلى مشايته الطبية ليتحرك بمفرده إلى أحد جوانب الغرفة لنبدأ التقاط الصور فرادى وجماعة، ولم تفارقه ابتسامته، وصبر على الوقوف رغم ما كان يعانيه.

ودعناه وقد كان الوداع الأخير، سنتذكره أينما كنا، سنتذكر لقاءات جمعتنا به عبر سنوات، سنتذكر التفافنا حوله فى اللقاء الأول فى مؤسسة هيكل، سنتذكر الأستاذ، سنتذكر المهنة، سنتذكر الكلمات «واكتفيت بأن قلت كلمتى ومشيت، وخطاى على الأرض لا فضاء النسر‏‏ ولا قفص الببغاء‏».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية