شهد مهرجان برلين 2016 عرض الفيلم التونسى «نحبك هادى»، إخراج محمد بن عطية، فى مسابقة الأفلام الطويلة، وهو أول فيلم تونسى فى هذه المسابقة منذ 20 سنة، عندما عرض «حلق الوادى» إخراج فريد بوغدير فى دورة عام 1996.
هذا هو الفيلم الروائى الطويل الأول لمخرجه الذى ولد عام 1976، ودرس السينما فى تونس وفرنسا، وأخرج خمسة أفلام قصيرة فى عشر سنوات من 2004 إلى 2014. ويعلن الفيلم، الذى كتبه مخرجه، مولد موهبة حقيقية جديدة سوف يكون لها دورها فى صنع مستقبل السينما فى تونس. كما يعلن عن مولد موهبة حقيقية جديدة ثانية، وهو الممثل مجد مستورة الذى قام بدور هادى.
«نحبك هادى» أحدث إنتاج لشركة المنتجة درة بوشوشة فوراتى، والتى تعتبر من أهم شركات السينما العربية المعروفة دولياً بإنتاج التجارب الجديدة ومساندة صناع السينما الشباب. والفيلم إنتاج تونسى بلجيكى فرنسى مشترك، والجانب البلجيكى شركة الأخوان داردينى، وهما من كبار صناع السينما فى العالم، وفازا مرتين بالسعفة الذهبية فى مهرجان كان. ومن اللافت أن أسلوب بن عطية يتأثر بأسلوبهما الذى يمكن وصفه بالواقعية التسجيلية فى السينما الروائية، وينتمى إلى السينما الخالصة، حيث ينشأ الفيلم بلغة السينما من دون مؤثرات أدبية أو مسرحية، ويدور فى الزمن الحاضر ويعبر عنه، ويعتمد على حركة الكاميرا الحرة والتكثيف الدرامى. والأرجح أن الأخوين أدركا أن الفنان التونسى ينتمى إلى المدرسة التى صنعاها من خلال قراءة السيناريو، ولذلك اشتركا فى الإنتاج. ورغم أن مدة الفيلم 88 دقيقة، فهناك نحو عشر دقائق زائدة من الناحية الدرامية، وينتهى الفيلم مرتين، وبه حوار شارح من دون مبرر فى عدة مشاهد.
سلطة الأم/ الأب
تدور أحداث الفيلم فى تونس فى الزمن الحاضر، أى بعد الثورة، وفى ظل وصول الإرهاب باسم الإسلام إلى تونس، وهناك إشارة إلى مذبحة الشاطئ تؤكد الزمن الحاضر. ويعبر الفيلم عن البعد العميق للثورة، وهو تغيير المجتمع الذى تسيطر عليه سلطة العائلة وتقهر حرية الفرد فى أن يعيش كما يريد ويحقق أحلامه الخاصة.
«هادى» شاب فى الخامسة والعشرين من عمره يعيش مع والدته بايا (صباح بوزيوتا) بعد وفاة والده، وهجرة شقيقه الكبير أحمد (حكيم بومسعودى) إلى فرنسا مع زوجته الفرنسية. ويعمل هادى مندوباً للمبيعات فى شركة «بيجو» للسيارات، وهو إعلان واضح عن هذه الشركة، ولكنه يهوى الرسم ويريد أن يكون رساماً، وتعكس رسومه بالأبيض والأسود قدرته الفنية.
نرى «هادى» مع العناوين وهو فى سيارته، التى نراه فيها أكثر مما نراه فى منزله. ومن الدقائق الأولى تبدو سلطة الأم/ الأب القوية حيث تختار له الفتاة التى يتزوجها، وهى خديجة (أمنية بن غالى)، وتستدعى أحمد من فرنسا حتى يتقدم إلى أسرة العروس باعتباره الأخ الكبير، وغير ذلك من تقاليد الطبقة الوسطى التى لا تتطور مع مرور الزمن، وكانت موضوعاً لعشرات الأفلام فى مصر وفى الدول العربية الأخرى. ولكن ما يميز فيلم بن عطية أسلوبه الحداثى فى التعبير عن ذلك الموضوع.
وأول مشاهد الحوار الشارح غير الدرامى عندما يلتقى الثلاثة (الأم وولداها) لأول مرة، ويقول أحمد لأمه: لقد أصبح هادى فى الخامسة والعشرين، ولم يعد طفلاً. ومن الحوار الشارح أيضاً عندما يلتقى هادى مع خديجة ويقول لها: لماذا لا تكونى نفسك وتختارين حياتك. وكأنه يتحدث عن نفسه، وإن كان هذا الحوار يمهد لتمرده عندما يلتقى مع ريم (ريم بنت مسعود) التى تعمل راقصة فى فرقة متجولة بين الفنادق داخل وخارج تونس.
اصطدم هادى مع ريم وهو يهرع فى الفندق الذى يقيم فيه فى إطار عمله، واعتذر قائلاً إنه علم لتوه بمرض والدته. وفى مشهد من أجمل مشاهد الفيلم يتوجه هادى نحو ريم وهى مع صديقة لها فى مطعم الفندق، ويقول إنه كذب عليها وإن والدته ليست مريضة. وتذهل ريم من براءته. وفى الليل يراها مرة أخرى تذهب للسباحة فى البحر، فيذهب معها، ويسبح بدوره، ثم يصعد معها إلى غرفتها، ويمارسان الجنس فيما يمكن اعتباره «فض بكارة» هادى.
يجد هادى نفسه، ويحطم كل قيوده حتى أنه يطلب من ريم أن تصعد معه إلى غرفتها من خلال «المواسير» الخارجية للفندق. وهو مشهد آخر من المشاهد التعبيرية الجميلة فى الفيلم. وعندما تقول له ريم أنها سوف تذهب للعمل فى أحد فنادق مدينة مونبيلييه الفرنسية بعد أن ضرب الإرهاب السياحة فى تونس، يقرر السفر معها، وعدم إتمام زواجه من خديجة رغم القيام بكل الإجراءات التقليدية، وتحديد موعد الزواج بعد يومين.
وفى مشهد طويل نرى هادى يقود سيارته وحده فى الليل، كما كان فى المشهد الأول الذى يدور فى الصباح، ثم يخرج من السيارة على شاطئ البحر ويتأمل. وهذه هى نهاية الفيلم الأولى، التى تجعل كل الاحتمالات قائمة. ولكن الفيلم يستمر، وتتم مواجهة مباشرة بين هادى ووالدته بحضور أخيه «يشرح» فيها معاناته من سطوتها، أى شرح المشروح، ويصبح عدم إتمام الزواج بسبب القبض على والد خديجة بتهمة الفساد. ويكشف أحمد لأخيه أنه فر إلى فرنسا بسبب سطوة الأم وكراهيتها لزوجته الفرنسية، وهو انقلاب كامل فى شخصيته. وفى آخر لحظة فى المطار قبل السفر مع ريم، يتراجع هادى، فيبكيان معاً، وخارج المطار نراه يتلفت يميناً ويساراً. وهذه نهاية الفيلم التى نراها نهاية ثانية، وتعتبر انقلاباً فى شخصيته بعد أن عرف معنى الحرية.