لماذا يصر الرئيس عبدالفتاح السيسى، رغم قلة زاده وطول سفره، أن يمضى مركبه القديم فى هذا الموج العاتى بمجدافين فقط بينما يحتاج إلى أربعة؟.. قد تلخص الإجابة على هذا السؤال الأزمة التى تمر بها السلطة حاليا، والحيرة التى تنتابها، والشعبية التى تتساقط منها، ويبتلعها ماء كالجبال، ونار تغلى فى كثير من الصدور.
فالرئيس يبدو مقتنعا إلى حد بعيد بأن الخلاص فى الاهتمام بالاقتصاد والأمن، بينما هو فى غنى عن السياسة ومكافحة الفساد، الأولى لا تحظى لديه بأى أهمية، والثانى يتصور أننا لسنا فى عجلة من أمرنا حياله. ورغم أن كلفة الاقتصاد والأمن كبيرة جدا، وليس بوسعه أن يحقق اختراقا كبيرا فيهما خلال زمن وجيز، فإنه يتمسك بهما، ويقف عندها فحسب، ويدير ظهره للمجالين الآخرين رغم أن كلفتهما مختلفة، فهى معدومة فى السياسة، أو تكاد، وقليلة فى مكافحة الفساد، أو أن بمكنة السلطة أن تشرع فيها دون إبطاء، ووقتها ستجد الناس معها.
ولأن المركب يسير بمجدافين فقط، أحدهما مكسور من منتصفه ومربوط بحبل غير متين، إذ إن الأمن ينتهك القانون فى كثير من المواقف، والآخر لا يتفق الراكبون عليه، فإن المركب يهتز، ونسمع أزاته وكأنها هزيم رعد، فى كل مكان. وكل ما هو مطلوب كى يثبت فى وجه الريح العاتية والموج الهادر أن يؤمن من يقوده أن الوقت قد حان ليزرع المجدافين الناقصين.
هذان المجدافان غائبان لأن الرئيس لا يراهما، أو يخاف من وضعهما فى مكانيهما، إذ يخشى فتح معركة مع الفاسدين، خوفا من أن يضغطوا عليه، بعد أن ضيع اللحظة التاريخية من يده، حين هدد بعض الذين أثروا دون وجه حق قائلا لهم: «سأترككم للشعب»، وقتها كانت شعبيته جارفة وكان الصدق فيه عال، والثقة به قوية، وكان بوسعه أن يستغلها لا ليحرض الناس على قتل الفاسدين أو نهب أموالهم، فتلك طرق بدائية لا تستقيم مع الدول والنظم السياسية الرشيدة، إنما بإعمال القانون، ووجود خطة واضحة المعالم لمكافحة الفساد، من أصغره إلى أكبره، وبعزم لا يلين، وشمول لا يعرف النقصان، ومضاء لا يسكنه أو يسكته أى تردد أو ارتجاف.
غياب السياسة، بل إهمالها واحتقارها، يحرف الاقتصاد عن طريقه، أو يهيل عليه ترابا كثيفا يثيره الخلاف والشقاق وانعدام الثقة ويقظة الشكوك فى المدنيين عامة والسياسيين خاصة. وبقاء الفساد حيا يرزق من حرام يأكل أى تحسن اقتصادى، بمشروعات كبرى أو صغرى، فهو الثقب الأسود الذى ابتلع ويبتلع كل شىء.
لا يشك أحد فى إخلاص السيسى للوطن، أو حتى لنفسه ورغبته أن يدخل التاريخ من باب المنجزين، لكنه الصواب وحده لا يكفى. وأنا فى هذا المقام إن برهنت على وجهة نظرى بالسياسة، فلن تقنع الرئيس لأنه يعتبر السياسة مضيعة للوقت، وإن برهنت بالثقافة، فلن يلتفت لأنه يعتبرها رطانة، بدليل أنه قد مضى معرضان للكتاب فى عهده ولم يفتتحهما ويجلس مع المثقفين ينصت إليهم، وإن برهنت بالاقتصاد سيرد سريعا: المعلومات لدينا وليست لدى أى أحد آخر، ناهيك عن احتكار التصور حول الأمن القومى ومصلحة البلد. من هنا ليس أمامى سوى البرهنة بالدين، وهو الباب الأسهل فى إقناع رئيس يراوح، حسب وصف المقربين منه، بين سلفية معتدلة وصوفية عارضة. ولعل الرئيس دفعنى إلى اتباع هذا النهج من البرهان، رغم اختلافى معه، حين اعتبر ما هو فيه الآن «ملك» أعطاه له الله، وذلك فى خطابه الأخير بمناسبة المولد النبوى الشريف.
وفى الدين سأتحدث عن «الإخلاص» و«الصواب»، وهما عكازان متلازمان لكل من يريد أن يتقدم إلى الأمام بثبات ورسوخ. فإخلاص بلا صواب عمى، وصواب بلا إخلاص انقطاع، وإن كان الصواب يمكن للناس الحكم عليه بالظاهر، وهذا مهم بالنسبة لسلطة سياسية، بينما الإخلاص مسألة لا قدرة للناس على الحكم فيها، فمحلها القلب ولا يعلمها إلا علام الغيوب، ولذا فإن الصواب متقدم على الإخلاص فى موقفنا من الرئيس، رغم أهمية كليهما، وحاجة كل منهما للآخر.
والصواب، وفق نهج الإسلام وتعاليمه، يعنى السير فى اتجاه الحقيقة، وعمل ما ينفع باحترام معطيات العلم والإيمان بالمشورة وتحصيل كل ما يفيد فى إنجاز المهمة، والإخلاص يعنى أن تتعدى الغاية من هذا العمل حدود تحصيل عوائد دنيوية إلى ابتغاء مرضاة الله. وقيام الإخلاص بفك الارتباط بين المنفعة الدنيوية الضيقة، بما يساعد من يتلمسون طريق الصواب على أن يسيروا فيه دون كلل أو ملل، فلا تحبطهم عوائد قليلة، ولا توقف سيرهم عقبات بفعل صراع المصالح بين البشر، فى تكالبهم المرير على متع زائلة. ومن ثم فإن العلم فى بحثه عن الحقيقة، والإبداع فى تلمسه للجمال، يجب ألا يفتقدا الروحانية والخيرية التى يوفرها الدين والسمو الأخلاقى، إذ إن هذا الافتقاد من شأنه أن يوجه دفة العلم إلى جلب الشرور، وينزلق بالإبداع إلى تخريب الذوق الإنسانى.
وقد ضرب القرآن الكريم مثلا مهما فى هذا الشأن، ليس من خلال تصويبه لآراء وتوجهات المسلمين فى مواقف محددة تعرضوا لها فى بداية الدعوة فحسب، بل أيضا حين زاوج بين الإخلاص والصواب، مقدما الأول على الثانى، حتى يوفر له عمقا عقديا يحميه من الانزلاق. ففى بداية الدعوة فى مكة، قدم القرآن الجانب العقدى والأخلاقى للإسلام، فلما آمن به أناس وصدقوا، جاءت سور القرآن التى نزلت بالمدينة لتعلمهم كيف يحققون مجتمعا فاضلا، أى يقوم على علاقات صائبة ومقاصد نبيلة. وهنا يرى كثيرون أنه ما من مرة تزاوج فيها الإخلاص والصواب إلا وكانت المنفعة والقوة والانتصار والتقدم، وعلى العكس، حين يغيب هذان العنصران، أو أحدهما، فإن الجهود تذهب سدى، بل قد ينحرف بعض من يخلصون لأفكارهم إلى القتل والتخريب، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا.
هذا هو المدخل الدينى الذى يمكن أن يكون الأقرب لإقناع الرئيس، وهو يبين بجلاء أن الإخلاص لا يكفى، وأن الصواب ضرورى، والصواب يقول إن قاربا يسير بمجدافين أحدهما مشروخ والآخر مختلف عليه، ليس بوسعه أن يمضى سليما إلى النهاية فى بحر متلاطم الأمواج. والصواب يقول إن الفصام بين العلم وقرارات السلطة خطيئة كبرى، ويقول أيضا إنك لن تستطيع أن تقود دولة فى زمن حديث بتفكير قديم، وأن طريقة قيادة معكسر للجيش يقوم على التماثل والتوحد ليس بوسعها أن تفلح فى قيادة مجتمع يقوم على التمايز والتنوع، فهذا غير ذاك، ولكل مقال مقام.
والسؤال: متى يدرك الرئيس أن المركب الذى يجلس على ناصيته ليس بوسعه أن يمخر عباب البحر الهائج بمجدافين على هذا النحو؟ إن هذا الإدراك لم يعد ترفا، وإن الحاجة إلى المجدافين الآخرين صارت غاية فى الإلحاح، وإن أى وقت يضيع دون أن يسارع الرئيس إلى تزويد المركب بما تحتاجه هو نزيف لقدرات هذا البلد، وتعريضه لما لا يطيقه فى وقت تحدق به الأخطار من كل جانب.
إن الحديث الذى أجراه الرئيس، وهو وزير للدفاع، مع رئيس تحرير «المصرى اليوم» الأسبق الأستاذ ياسر رزق، وهو رجل مقرب من المؤسسة العسكرية، شرح فيه السيسى مفهومه لـ «الأمن القومى الشامل» وكان شرحا متكاملا، فيه العسكرى والاقتصادى والسياسى والاجتماعى والثقافى، وفيه ما يتعلق بالتعليم والإعلام، فلمَ نرى بعض هذه المجالات تتساقط من الرئيس حين تولى الحكم، وبات عليه أن يحول أقواله إلى أفعال؟.. لا طريق أمام الرئيس سوى الإجابة والاستجابة، لا طريق سوى أن يقرأ حديثه هذا الذى نشر على ثلاثة أيام، ويعلن التزامه به، ويبحث عمن يساعده على تطبيقه، وفق قاعدة «كل مهمة تنادى صاحبها»، فهذا هو الحد الأدنى وعليه الامتثال له قبل فوات الأوان.