فى ذكرى التنحى، لا يسعنا سوى تذكر ثورة رفعت قيم الكرامة، والحرية والعدالة، فشارك فيها وتعاطف معها ملايين المصريين، الذين آمنوا بهذه القيم، وصدقوا أنهم يستحقونها. لذا، فإنه من المدهش أن تتحول أحلامهم بدولة تحترم آدميتهم إلى ذكرى حزينة، بل وغريب أن تتعمد وجوه سياسية أو إعلامية تحويل يوم فخر تاريخى للمصريين إلى مدعاة للضجر والإهانة. لمصلحة من يحدث ذلك؟ علمًا بأن رئيس البلاد أشاد صراحة بـ«يناير»، ووصفها بالمجيدة، بالتأكيد من حق أى مواطن أن يكون له أى رأى أو رؤية، من حقه أن يؤيد الثورة أو يختلف معها، لكن كيف لا يحترم القيم التى نادت بها؟ وهل من إنسان يرفض قيم الحرية والعدل والكرامة؟
هل أخطأ الكثيرون ممن تصدروا المشهد السياسى إثر يناير؟ الإجابة: قطعًا نعم. أخطاء كثيرة اقترفها «الثوار» باسم الثورة، أقلها عدم قبول بعضهم بالتفاوض على حد أدنى من الإصلاحات، والعمل على تجذيرها بشكل متدرج كما حدث فى التجارب الدولية المماثلة، بل أصروا على زيادة الضغط، والنزول اللانهائى إلى الشارع، محدثين فراغًا صب تارة فى صالح الإخوان، وتارة فى صالح العودة إلى النظام القديم. جميل، حدث ذلك، ولا مجال لإنكاره، لكن المثل الفرنسى يقول لو أردت التخلص من الماء الذى يستحم فيه طفلك لأن الماء اتسخ، فلا ترمى الطفل والماء معًا! نعم، لا تكفر بالقيم التى رفعتها وآمنت بها بسبب أخطاء ارتُكبت، فالأخطاء والإنسانية لا تنفصلان، وإن تمنيت إعلاء قيم الأخيرة فتقبل أن تتعلم من الأولى.
انظر إلى الوجوه المحبطة فى شوارع المحروسة كى تدرك عمق الأزمة! لم تنجح الثورة ولم ينجح أحد أيضًا. تعثر الثورة ترك بصمة عميقة فى النفوس. فالأمر لا يتعلق بجيل من الشباب رفع شعارات ثورية وولّى، بل بالأحرى بشعب عظيم حلم بالأفضل، ولكنه لم يجنِ سوى الأسوأ! تمنى أن تصبح مصر الجميلة بلداً متقدماً وعادلًا وديمقراطياً، لكن اليوم تقلصت أمانيه: يريدها فقط بلداً مرة أخرى. للأسف، يوجد خلف الهدوء العميق بركان من الإحباط والمرارة. فالفقير الذى اعتاد على الطعام الهزيل، ثم ذاق طعاماً شهياً، لن يترك الأخير. وإن حرمته إياه فسيعود إلى وجبته الهزيلة بألم يضاعفه هذا الحنين إلى هذه الأكلة الفاخرة التى ذاقها، ولو ليوم واحد. والحقيقة أن هذا الحنين، مصدر الألم الحالى، ليس إلا وقود تغيير المستقبل. فالفشل فى مرحلة ما لا يعنى سوى أن شيئًا أو كائنًا ما يعيش مخاض الميلاد. ببساطة، سنوات الألم الحالية لجيل متعثر، هى الوقت اللازم لميلاد جيل جديد يشاطر القديم نفس الأحلام والقيم، ولكنه لن يقاسمه، فى المستقبل، ذات الأخطاء والخطايا.
وهذه هى قوة ثورة تعثرت اليوم كى تعيش دومًا، فشلت مرحليًا كى تستقر وجدانيًا كذكرى جماعية مؤلمة ومحررة فى آن واحد، بما يعنى إمكانية استعادتها فى أى لحظة، وإلا فلِمَ تفزع الدولة منها وترتعد؟ وبشكل عام، قد يمنع الخوف الناس من النزول إلى الشوارع، وربما يدفعهم سوء الأوضاع إلى السكون العاقل، ولكنه لن ينجح أبدًا فى أن يُنسى الأجيال القادمة أحلامها، فالقيم تعيش وإن ولّت الثورات، الأخيرة زائلة، أما بصمتها فخالدة.