عاشت الفنانة ليلى مراد مصرية وماتت مصرية وستبقى كذلك فى وجدان محبى فن الغناء وفن التمثيل العربى، وأظن أن من يريد أن يدرس معانى الوطنية المصرية لابد أن يتوقف أمام أسماء عديدة، فى التاريخ والواقع المصرى، فى مختلف المجالات، فى المجال الفنى تأتى ليلى مراد، التى توفيت فى نوفمبر 1995؛ وقد أصدر عنها زميلنا رئيس تحرير الكواكب الأسبق أشرف غريب، كتاباً توثيقياً لافتاً ونشرته «دار الشروق»، أشرف غريب، باحث مدقق فى المجال الفنى، يبذل جهداً شديداً ليوثق معلومته.
ليلى مراد كانت ضحية صحافة غير مدققة، أو قُل إنها تعرضت لمكيدة كانت الصحافة طرفاً فاعلاً فيها سنة 1952، حيث نُشِرَ فى بيروت ثم فى دمشق أن ليلى مراد سافرت إلى إسرائيل وأنها تبرعت لإسرائيل بمبلغ خمسين ألف جنيه، وقامت سوريا بمنع عرض أفلامها وأغانيها بسبب ذلك، الغريب أن قطاعاً من الصحفيين المصريين نشروا ورددوا هذه الأقاويل.
كانت فترة ريبة، إذ أعقبت مباشرة قيام ثورة 23 يوليو 1952، والذى حدث أنه بعد خروج الملك فاروق من مصر، ورغبة فى تملق الحكام الجدد واستثمار حالة السيولة القائمة، انتشرت الإحن الخاصة والأحقاد والحسد المهنى وعمليات الانتقام الرخيصة، كل ذلك متوارياً خلف الشعارات الثورية ورفض العهد البائد، انتشرت الشكاوى الكيدية و..، كانت ليلى مراد واحدة من الذين تعرضوا لتلك الموجة.
قيل الكثير والكثير فى هذا الموضوع، وأشارت مجالس النميمة إلى أن زوجها السابق أنور وجدى وراء تلك الشكاوى.
كانت الموجة السائدة وقتها هى الاتهام بالعلاقة مع «العهد البائد»، أم كلثوم نفسها تعرضت لمثل هذا ومنعت أغانيها فترة من الإذاعة المصرية، غير أنها عبر الصحفى الكبير مصطفى أمين، تمكنت من الشكوى إلى البكباشى أركان حرب جمال عبدالناصر، الذى رفع عنها هذا الغبن، لكن ليلى مراد كانت تهمتها مختلفة، وهى التبرع لإسرائيل بمبلغ خمسين ألف جنيه، وزيارة تل أبيب، حين كانت فى باريس، اختيرت هذه التهمة، كما يبدو، لسببين، الأول: أنها ولدت يهودية، صحيح أنها كانت اعتنقت الإسلام، والمعروف أن الإسلام يَجبْ ما قبله، لكن فى حالة ليلى مراد، جرى إسقاط تلك القاعدة.
الثانى: أن العهد الجديد، عهد الضباط الأحرار، نشر فى بيانه الأول أن أحد أسباب الثورة على الملك فاروق هو هزيمة 1948 وضياع فلسطين، كانت هذه القضية ولاتزال موجعة للوجدان العربى، ومن ثم كان إلصاق هذه التهمة بالفنانة الكبيرة كافياً فى نظر هؤلاء لإخراجها نهائياً من الساحة الفنية.
لم تنتبه الصحافة المصرية، وقتها، التى رددت هذه الفرية، أنه قد يكون مقصوداً بها ضرب سمعة الفن المصرى عبر ليلى مراد، وقد يكون وراء الأمر منافسة وغيرة مهنية، وربما وقفت خلفها رغبة إسرائيلية فى تضييق الخناق عليها لدفعها دفعاً لمغادرة مصر والذهاب إلى إسرائيل، غير أن الفنانة اعتصمت بمصريتها.. ولم يهب أحد للدفاع الجاد عنها، غير بعض زملائها من الفنانين مثل محمد عبدالوهاب ومحمد فوزى، حتى تدخلت القيادة العامة للقوات المسلحة وأرسلت بخطاب فى 27 أكتوبر 1952 إلى غرفة صناعة السينما المصرية يبرئ ساحة ليلى مراد وأنه.. «بعد تحريات جهات الاختصاص.. تبين لنا أن السيدة ليلى مراد لم تسافر إلى إسرائيل ولا صحة لما نشر عن تبرعها لحكومة إسرائيل بأى مبلغ».
بعد أن برأتها القيادة العامة للقوات المسلحة، راحت ليلى مراد تذكر الجميع بالآية القرآنية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، خطاب القيادة العامة، لم يكن سرياً، إذ نشرته مجلة «المصور» مع تحقيق موسع يبرئ ليلى مراد، ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، إذ استمرت صحافة «التجريس»، وهى غير صحافة الإثارة فى التحامل عليها، ولم تنته المكائد، إذ نجدها تبعث برسالة إلى اللواء محمد نجيب – قائد الثورة - فى 21 مارس 1953 تشكو له من عدة مضايقات تعرضت لها.
الرسالة منشورة بخط يدها، وفيها تقول للواء نجيب: «ساءت حالتى النفسية جداً وأنا لا أغادر منزلى..» وتقول له «إن كنت مذنبة فى أى شىء أو أنى فعلاً تبرعت بأى أموال إلى هذه الجماعة فأنا على استعداد للمحاكمة وحتى الإعدام محبة فى تراب مصر».
المضايقات التى تتحدث عنها، تؤذى أى إنسان وتدمره نفسياً، كبار السياسيين الذين تعرضوا لمضايقات أقل من تلك، أجبرتهم على الانسحاب والانزواء إلى الأبد، فما بالنا بفنانة رقيقة وحساسة؟
ويبدو لى أن ليلى مراد لم تنج نفسياً من تلك الحملة وأنها أحدثت تحولاً شديداً فى حياتها، وأن اعتزالها المبكر وهى فى ذروة العطاء بعيداً عن مؤثرات حملة التجريس الظالمة والقذرة التى تعرضت لها.
الأسبوع الماضى، كنت أشاهد الفيلم الفلسطينى فى افتتاح مهرجان الأقصر للسينما العربية والأوروبية، ويحمل عنوان «3000 ليلة» للمخرجة المبدعة «مى المصرى»، الفيلم يتناول أوضاع السجينات الفلسطينيات فى أحد السجون الإسرائيلية، وفى مشهد فنى نرى الفلسطينيات فى لحظة صفاء داخل الزنزانة يرددن أغنية ليلى مراد بتصرف خاص منهن «أنا قلبى دليلى.. قالى هتتسجنى..».
رحم الله ليلى مراد، عاشت وماتت وستبقى مصرية– عربية.