غضبت من أنيس منصور ذات مرة حين كتب في عموده المقروء بالأهرام: إنى لست أنيقاً، إنما أنا «أتأنق» وضرب مثلاً، حين كنا نمشى بالساحات في العواصم الأوروبية وتستوقفنى محال الأحذية، فإذا دخلناها سوياً اكتفى أنيس بالفرجة ولاحظ أنى «أتبختر» بين أحذية أجربها وراء أخرى، غضبت لأن أنيس الذي كتب «عبدالناصر المفترى علينا» يعلم أن مرض السكر زارنى منذ حادث فصلى في الزمن الشمولى وأقام حتى الآن، ويعلم أن القدم إذا طالها المرض ربما تعرضت للبتر ويعلم أن العناية بالقدم والأصابع وراحة القدم في الحذاء من ضرورات العلاج، وربما لا يعلم أنيس منصور أنى كنت أختار الحذاء المريح ولا أتبختر!
ما مناسبة الكلام عن الأناقة والتأنق؟
إنها أناقة د. محمد عبدالوهاب اللافتة للنظر وهيبته وشعره الأبيض عنوان الوقار وكانت أناقة د. عبدالوهاب تلفت نظر زوجته، كأى زوجة مصرية تنتبه لأناقة الزوج ود. عبدالوهاب الذي كنت ألقاه صدفة في «دار الفؤاد» يجيد اختيار لون بدلته مع لون قميصه «مع لون القميص المناسب لربطة العنق» مع لون منديل الجيب المكمل للسياق العام.
وكأى ست مصرية، كانت فاتن حمامة تسأل زوجها بخبث طفولى: على فين العزم النهاردة يا دكتور؟ فيضحك د. عبدالوهاب ويرد بعقل وفهم: ميعاد مع واحدة لا تملك رقة فاتن ولا جمالها ولا أنثوتها ولا واحد على مية من شهرتها! وتعلو الضحكات فلما سألت د. عبدالوهاب: هل السؤال عن شك؟ قال: أبداً عن منتهى الثقة وإلا ما استمر زواجنا 45 عاماً، إننا نتبادل الثقة و«أفتكر ده اللى يحفظ الجواز من العواصف»، سألته عبر فنجان قهوة، هل شعرت أن الزهايمر اللعين دق على باب ذهنها؟ قال: لآخر لحظة في عمرها، كانت يقظة صاحية حاضرة وتفكرنى بأشياء حديثة عارف ليه يا أستاذ مفيد.. لأن مخها مشغول بالشأن العام والشأن الخاص دايماً بتفكر. الزهايمر يفترس من أبطل نشاط المخ بإرادته أو الظروف، وجدت نفسى أوجه له سؤالاً ربما يسمعه لأول مرة لا أعرف هاجسه.
- ما رأيك في الفنانة الكبيرة ماجدة الصباحى؟
وأطرق د. عبدالوهاب وقال بعد ثوان: جميلة بوحريد «أشهر أفلامها».
قلت: هل كان لفاتن حمامة منافسات؟
قال: الفن نفسه مبنى على عنصر المنافسة ودون المنافسة يموت الإبداع.
انتبهت إلى نقطة هامة في الحوار مع رفيق رحلة فاتن حمامة، إنه ليس مجرد «مصدر» أتحرى منه عن فاتن حمامة التي لا نعرفها، إنه أيضاً أستاذ أشعة وبيزنس مان ويملك مستشفى ومركزا طبيا، ومن هذه الزاوية فتحت باب النقاش وفجأة دمعت عيناه، فأثرت الصمت فقال: صباح يوم الرحيل، اختلفنا الصبح من يستخدم كرسى المساج قبل الآخر، كانت تحب أن تسبقنى ولكنها قالت: اتفضل حضرتك مش هازعلك، أردت تغيير دفة الموضوع فطرحت على رجل الأعمال د. محمد عبدالوهاب عدداً من الأسئلة في الشأن العام وهكذا أوجزت إجاباته:
1- مصر دولة بحرية وليست نيلية فقط.
2- لدينا سوء توزيع جغرافى للسكان.
3- في كل حارة في ألمانيا «صناعة صغيرة».
4- ما جرى لرجل الأعمال المهندس صلاح دياب زرع الخوف في كثيرين.
5- أرقام التحاليل الطبية لابد من دقتها لأنها «كشاف العلاج».
6- جسم الإنسان معجزة تشهد بعظمة الإله وقدرة الخالق.
7- العقل الإنسانى أكثر ألغاز الحياة.
8- الأشعة علم يكشف بما لا يدع مجالاً للشك: البراءة أو المرض.
9- التكنولوجيا تتوقف على طريقة الاستفادة بها.
10- أطالع كل جديد في علوم الأشعة ولم تمنعن «الإدارة» كونى طبيباً.
تذكرت أنى سألت د. عبدالوهاب: هل كانت فاتن حمامة تخاف من الموت:
قال: كانت تقول: «أتمنى يومى قبل يومك».
قلت: بم كنت تجيب؟
قال: كنت أرتبك وأقول لها «ربنا يديكى العمر الطويل يا فتونة» فترد «أكثر من كده؟» فأقول لها «ربنا قادر على كل شىء» ثم تصمت وتفاجئنى «الموت حق والا إيه يا محمد؟» فأقول لها «تعال نغير الموضوع» فترد: أنا مش خايفة من الموت بس لا عايزة جنازة ولا صوان عزا، أصل صوانات العزا مابقاش لها جلال، الناس تتقابل كأنه كافتيريا والموبايلات ماتبطلش رن، مفيش طعم حزن، قال لى د. محمد عبدالوهاب: هذا الكلام المنطقى الذي جرى مساء أحد الأيام قبل «غيابها» بشهر كامل كان بمثابة وصية لفاتن ولكنى ظللت بعد هذه المناقشة لا أنام وكلما تذكرت حديثها بهذا الاقتناع والتصميم أشعر بالانزعاج، ووجدتنى أهمس بسؤال مسموع: «هل كانت تحس فاتن بالانصراف من الحياة قبل شهر من لحظة الرحيل؟! لكنها رحلت، ولم يبق أمامى سوى رفيق عمرها د. عبدالوهاب.
قلت: أيامك معها كانت أفضل أيام عمرها.
قال: ماكانتش تحب المخاطرة، لما نقرر نطلع البحر ويكون عالى شوية، تكون مش مرتاحة، أقول لها طبيعة البحر كده، يبقى عالى وبعدين يهدى، تقول لى «أنا هستنى لما يهدى، فلما أقول لها «بعض المخاطرة فيه لذة الحياة» ترفض هذا الشعار وتقول «المخاطرة في الفن مهمة لأن الفن مايبقاش فن من غير جرأة في التناول» الفن نفسه مخاطرة يا محمد!
قلت: ماذا وفرت لها سنوات زواجك منها؟
قال: الاستقرار وراحة البال، يعنى الروقان زى ما كانت بتقولك في أحاديثها معاك.
قلت: هل مزاجكما الشخصى واحد؟
قال: فيه كيمياء، يعنى أنا مهتم في الصيد مثلاً بالسمكة ولونها وحجمها وهى مهتمة بالسماء والسحب ولون الشفق والطيور، كانت تحب تسأل الصيادين وتعرف حاجة عن حياتهم. وكنت أبات مصغيا لها، دايماً كلامها له أهمية عندى، ولما أتكلم في موضوع لا يخصها تهتم بمتابعته، علاقتى بفاتن حب واحترام، فالحب ملوش معنى من غير احترام والاحترام وحده من غير حب هو احترام في المطلق، كانت فاتن كتاباً مفتوحاً وكذلك كنت أنا ولذلك أشعر بفراغ هائل.
قلت: هل تذكر أول مرة شعرت فاتن بالألم؟
قال د. عبدالوهاب: فاكرها زى ما تكون امبارح، كنا في مسرحية لعادل إمام وبعدين حست بتعب، تقدر تقول «نغز»، هي ضغطها عالى شوية، فقلت لها «طيب، نرجع البيت» قالت لى: مش ممكن هيفسروا خروجى موقف، قلت لها يفسروا زى ما يفسروا، قالت: ده احترام لجهد فنانين، ماقدرش أمشى قبل ما تبتدى.
قلت: وبقيت؟
قال: نعم وبقيت من أجل قيمة أخلاقية، ومرة ثانية كنا ماشيين في النادى حست بنفس النغزة في الصدر، قلت لازم أخدها أمريكا يشوفها أكثر من دكتور وأجمعوا على تغيير أحد الشرايين.
قلت: ماذا كان ينغص حياتها يا دكتور عبدالوهاب؟
قال: زمن الإخوان، تصور أثناء النوم كانت تفز مرة واتنين والصبح أسألها: كنت بتحلمى؟ فتقول: مش فاكرة.
قلت: هل كانت تحلم وتنسى؟
قال: ربما كوابيس وتخفيها عنى حتى لا أتألم لمعاناة في اللاشعور.
قلت: هل جلست إلى قارئ كف يوما ما؟
قال: لا أتذكر أن هذا حدث.
قلت: ولكنها مؤمنة بالأبراج إلى حد ما؟ كنت أسمع أنها حين تتعاون مع مخرج جديد أو نجم جديد تحرص على معرفة البرج الذي ولد فيه وهى جوزائية.. مثلى!
قال: اهتمامها ببرج من يتعاون معها، هو مدى التطابق أو التنافر في الطباع، لا شىء أكثر.
قلت: هل كنت ترى أفلامها القديمة؟
قال: من المرات القليلة اللى كنا مدعوين عند الموسيقار عبدالوهاب وأهم ما قاله في تلك الليلة أن علاقته تنتهى بمجرد الانتهاء من العمل الفنى، يصبح «فعل ماض»، تصور أن فاتن عندها نفس المبدأ، أفلامها القديمة أيام كانت ترسم صورة «البنت المغلوب على أمرها» ليست في ذهنها وتتذكر ماذا كانت ملابسها في هذا الزمن وكل عمل انتهت منه تطلعت للقادم ويبدأ القلق والمعدة المضطربة والضغط العالى، إنما اعتزازها بلا حدود بأفلام: دعاء الكروان والحرام وفى بيتنا رجل وأفواه وأرانب والباب المفتوح وأريد حلاً ووجه القمر. يوم انتقلت بفكرها من «المغلوب على أمرها.. للقضية».
قلت له: هل كان لك رأى في اختياراتها؟
قال: لما عملت يوم حلو ويوم مر، كان لى «نقاش مع خيرى بشارة».
قلت للدكتور عبدالوهاب هذا الفيلم اختلفت مع فاتن حمامة حوله إذ كتبت «يوم مر ويوم أمر»، كنت أريد أن أقول إن الفن اختيار، وليس فوتوغرافياً، كان ضرورياً أن تدفع ببصيص من الأمل في الفيلم، غضبت فاتن من رأيى وتصالحنا بعد أيام.
قال د. عبدالوهاب: خد بالك إن فاتن كانت بتاخد القصص من أصحابها الحقيقيين، حكت لى أنها كانت مع الكاتبة الكبيرة أمينة السعيد ودخلت واحدة ست بقالها 30 سنة في المحاكم، كانت هي فاتن في أريد حلاً.
قلت: لذلك أقول إن سينما فاتن حمامة هي سينما الإنسان.
قلت: وصلت للقمة، فهل كانت تشعر بقلق؟
أضاف د. عبدالوهاب لكلمة قلق وصف مدمر.
سألت رفيق رحلة فاتن حمامة: هل كانت منطوية؟
قال: انطواء الفنان المهموم بعمل جديد، كانت شاعرة أن الجمهور في إيده كرباج ولا يرحم، كنا أحياناً نزور أصحابنا وبعدين في لحظة ما نبص لبعض: امتى الانسحاب الهادئ!
قلت: صارحتها مرة أن زوج حضرتك «بيستحمل صمتك وشرودك الفنى، كيف كنت ترى هذا الصمت والشرود؟
قال: كنت بحترم صمتها وشرودها. لا اتدخل ولا أقاطعه، لازم دماغها مشغولة بفكرة جديدة. وأستنى لما ترجع للوضع الطبيعى، هكذا الفنان.
قلت: هل هي بارة بأسرتها؟
قال: أكيد.
قلت: هل كانت تزورهم وتزار؟
قال: في حدود الوقت اللى يسمح بزيارات عائلية، وهى مع أسرتها كريمة جداً وحساسة أوى.
قلت: هل كانت محبة للسفر؟
قال: كانت تميل للسفر بالبواخر لا بالطائرات تماماً زى طقوس الموسيقار عبدالوهاب. آخر مرة رحنا الأقصر وأسوان بالمركب، كانت منبهرة وسعيدة.
قلت: صف لى سعادة فاتن؟
قال: لما تقول عن حاجة «الله» تشعر أنها سعيدة أو «شفت الحلاوة دى يا محمد. شفت الجمال ده أد إيه».
قلت: هل كان يروق لها مجتمع الأطباء وزوجاتهم؟
قال: طبعاً كنا بنختار أصدقائنا وتبقى متآلفة معاهم.
قلت: والحفلات العامة؟
أجاب: كانت تقاطعها ولا تطيق مكاناً فيه أصوات عالية.
قلت: هل بين الأصدقاء فنانين؟
قال: محدودة في السيدة زينب صالح سليم وعطية الدرمللى.
قلت: لماذا فشل مشروع مسلسل عن حياتها تروى فيه حكايتها بعفويتها، كان سيكون «دروساً في الفن».
قال: إن المشروع جه في الوقت اللى بدأت تتعب فيه وهى زى ما عرفتها ملتزمة، وكانت تثق فيك كما صرحت لى أكثر من مرة و«بينكما عشرة عمر».
قلت: ما سبب توقف المشروع؟
قالت: إن المنتج كان يريد فاتن «الحياة الشخصية» لا فاتن «الفنانة» وبالنسبة للحياة الشخصية رفضت جملة وتفصيلاً وبالنسبة لفاتن الفنانة تحمست لأنها جزء من وجدان مصر وقوتها الناعمة.
قلت: بالمناسبة هل كانت حريصة على العزاء بملابس سوداء؟
قال: ده كان صعب بالنسبة لها وكانت تعمله في أضيق الحدود، عموماً، كانت عدوة النكد يمكن أحياناً كانت تؤجل قراءة الصحف لبعد الضهر، وتهرب من التليفزيون لما يكون فيه برنامج يناقش مصيبة.
قلت: خسارة أنها لم تترك بصوتها دروس عمرها وتجاربها الحياتية وتتكلم عن اختياراتها لقصص أفلامها ومناقشاتها مع مخرجى هذه الأفلام.
قال د. عبدالوهاب: أظن أن صحتها العامة خذلتها، وأعلم أنك كنت محاور هذا العمل الذي كنت ستربطه بالشأن العام، الحقيقة هي كانت تستريح لك، لما وصلت للإحساس ده اشترطت مع منتجى العمل أن تكون أنت محاورها، لكن نصيب!
قلت: كان شرطها الوحيد عدم الخوض في السير الشخصية، كانت تقولى «أنا مش فاهمة عمل كبير زى ده يبقى عايز توابل؟»، كنت أوافقها على منطقها ولكن «زى ما قلت لك نصيب».
قلت: هل لاحظت على رفيقة العمر «دنو الأجل»؟
أجاب: كانت تفلت منها كلمة «خلاص.....» وكانت الكلمة تتعبنى.
سألته: هل أخذت فاتن حماة حقها من التقييم بعد الرحيل؟
قال: تصورت أن الدولة هتديها جايزة «قلادة النيل».
قلت: هل لفاتن أعداء.. غير محبين؟
ابتسم وقال: مافتكرش.
قلت: متى تضحك فاتن من أعماق القلب؟
قال: مع أحفادها وأولاد أحفادها.
قلت: هل كانت متشائمة؟
قال: كانت حذرة وتخاف من الحسد!
قلت: ما حقيقة مدرسة فاتن حمامة في ترسا قليوبية؟
قال: واحد اشترى منى الأرض وأصر على تسميتها باسم فاتن.
قلت: ولكن البعض ثار في القرية.
قال: دول إخوان!
سألته: ما سر ندرة ظهور فاتن حمامة في الحياة العامة؟
قال: فيه ناس بطبيعتهم أميل للعزلة، وهى كانت من دول.
قلت: في أي سن تزوجت فاتن؟
قال: في سن 53 والفرق بيننا 9 سنين.
سألت: هل تذهب إلى أماكن جمعتكم معاً؟
قال: نعم، لأتذكر التفاصيل.
قلت: هل كانت صاحبة رأى سديد؟
قال: جداً، فكرت أدخل البورصة فقالت لى «يا محمد بلاش البورصة».
سألته: كيف استقبلت لقاء الرئيس السيسى لها؟
قال: بالاحترام والتقدير وقد لمس قلبى.
قلت: تمسك بصورتها طول الوقت؟
رد بسرعة: متونس بيها.
قلت: سؤال ممكن تحذفه «كيف كانت العلاقة بين ابنتك قسمت حرم الراحل منصور حسن و.... فاتن حمامة الزوجة؟».
قال: في أول الأمر، طبعاً كان صعب جداً ولكن قسمت ست متفهمة وثقافتها عالية وبعدين تطور الموقف وأصبحوا «أصدقاء جداً».
يا سيدة القصر
أنت «فهرس» للحياة المصرية، كبرنا معك ونضجنا معك وفوق الدرب سرنا معك وخاطبتنا بلغة الزمن وكنت بليغة و....
ومضيتِ.