أجولُ الآن بين مقابر أجدادى الفراعين بالأقصر. أتوقفُ أمام الرسوم بألوانها المشرقة العصية على الزمان. أتأملُ أقوال السَّلف الطيب وأذاكر كلماتِهم وأفكارَهم لكيلا أفقد بوصلتى فى الحياة. أودُّ أن أحافظ على براءتى مهما تكاثفت طبقاتُ الشرور من حولى. أرددُ مع صدى أصواتهم فى بهو المعبد: «أنا لم أتسبب فى دموع إنسان. أنا أحترم الحيوان ولا أهينُه. أنا لم أعذّب نباتًا بأن نسيت أن أسقيَه. أنا لم ألوّث مياه النهر، ولم أوقف جريان الماء. أنا أُعمّم السلام. أنا أنشر الفرح. أنا أتسامحُ. أنا أعطفُ. أنا أعشقُ الكلَّ. وأنا أحيا بالحق. لهذا كلّه أستحق البعثَ والخلود». هكذا يقول المتوفى أمام المحكمة الأوزورية فى حضرة الملك أوزوريس والاثنين وأربعين قاضيا الذين يقررون إن كان الميتُ سيذهب إلى الفردوس والخلود أم إلى دار الفناء والعذاب، لكن ليس قبل أن تختبر «ماعت»، ربّةُ العدل، إن كان المتوفى صادقًا فى اعترافاته بعد وضع قلبه على إحدى كفّتى ميزانها مقابل ريشتها، ريشة الضمير، فى الكفّة الأخرى لتشهد إن كان قلبُه خفيفًا من الآثام، أم مُثقلاً كان بالشرور. آمن أجدادُنا بما حفروه على جدران معابدهم ومقابرهم: «إينما أحببتَ كلَّ الناس، أعطاك اللهُ الحياةَ الأخرى». ولأنهم يرومون الخلود، نفّذوا الوصية، فصنعوا أرقى حضارات الأرض وشكّلوا فجر الضمير الإنسانى. ولكن، كيف يمكن لإنسان أن يكون طيبًا ومحبًّا للآخرين، وسط مجتمع قاس لا يرحم؟ كيف يمكن أن يكون الإنسانُ خيّرًا فى مجتمع تحكمه قوى الشرّ دون أن يُصفع ويُنكّل به؟ لماذا تسودُ الشرورُ العالم إلى درجة جعلت الملائكة تنزل على الأرض لتبحث عن إنسان واحد طيب يؤكد للسماء أن وصاياها لم تضع هباءً؟! هنا تذكّرت صوتَ عظيمة المسرح «سميحة أيوب» وهى تحاكم الآلهةَ بصوتها الهادر فى مونولوج كتبه الكبير «صلاح جاهين» فى فصحى رائقة توّجت مشهدَ الختام فى مسرحية «الإنسان الطيب من ستشوان» لـ«بريخت».
«إنسانُكم الطيب هو أنا. أنا شنتيه وشيوتاه معًا. مشيئتُكم أن أكون طيبة، وفى الوقت نفسه أظلُّ أعيش. مشيئتكم هذه شطرتنى كما الصاعقة إلى نفرين. أنا لستُ قادرة أن أفسر مما حدث سوى أن صنعَ الجميلِ لنفسى وغيرى معًا لم يكن ممكنًا. وخدمةَ الآخرين ونفسى، بدتْ غايةً فى الصعوبة. ألا إن عالمَكم مستحيلٌ بكلِّ ما فيه من ناقصاتٍ وكلِّ ما فيه من تعجيز. ذراعٌ تُمدُّ للجائعين تُعضُّ وتُنهشُ من فورها. ومَن يمنحُ العونَ للضائعين. يضيعُ بدورِه. ومَن ذا الذى يستطيعُ التروّى. وكبحَ جماحِ الغضبْ، وبالقربِ منه يموتُ الجياع؟ ومن أين كنتُ أدبّر ما ينقصُ الُمعوَزين سوى من كيانى أنا؟ على أن ذلك كان السبيلَ إلى عثرتى. فثِقَلُ وصايا السمواتِ غطّسنى فى الوحول. فلو أننى دُستُ فوق التعاليمِ لاختلتُ فى مِشيتى. وأكلتُ لحدِّ الشبع. هنالك شىءٌ بعالمِكم أيها النيّرون غلط. لماذا يفوزُ الجُناة بحُسن العواقب. والخيرّون لهم كلُّ هذا الشقاء؟ فمذ نزحتنى ضمنَ مياه المراحيضِ أُمّى، بفعل التبنّى، نشأتُ ولى نظراتُ تشقُّ الحُجُب، ورقّةُ قلبٍ تجرُّ علىّ الألم. وفى البَدء كنتُ أحسُّ بغضبةِ ذئبٍ لمرأى التعاسة. ولكن رويدًا رويدًا شعرتُ بطبعى تحوّل. وصارت شفاهى حازمةً صارمة. وأصبحَ طعمُ الكلامِ الرحيمِ بحلقى مُرًّا كطعم الرماد. على رغم هذا فقد كنتُ أسعدُ لو أننى صِرتُ حقًّا ملاكَ العشش. فمازال لى بهجةٌ فى العطاء. ومازلت ألمحُ وجهًا ضحوكًا. فأسبحُ بين السُّحُب. خُذونى بذنبى. فكلُّ جريمةٍ اقترفتها يدى كنتُ أبغى بها معونةَ جارى وحبَّ حبيبى. وإنقاذَ طفلى من النومِ دون عشاء. أجل أيها الآلهة. لقد كنتُ شيئًا شديدَ الصغر. أنا الكائنُ البشرىُّ الضعيف. أمام مشاريعِ حضراتِكم».
Twitter: @FatimaNaoot