x

أحمد الشهاوي كُتب الكُفَّار أحمد الشهاوي السبت 06-02-2016 21:21


كل كلمة مكتوبة غالية، بل ومقدَّسة، ومهما اختلفنا معها لا ينبغى لنا حرقها أو طمسها أو إتلافها بأى وسيلة كانت، بل علينا تطييبها وتعطيرها بالجدل والنقاش حولها، وألا تضيق صدورنا من كلامٍ نجهله، أو هو جديدٌ علينا، ومختلف عمَّا نعرف ونعتقد، لأنه ما من أحدٍ على هذه الأرض ينهى عن الكتابة، أو الاجتهاد فى أمرٍ من أمور الدين، وليس صحيحًا ما يردِّده بعض المشتغلين بالدين من أكاديميى الأزهر من أن الأزاهرة فقط هم من لهم حقُّ الحديث فى الدين، وعلى سواهم الفُرجة والإنصات والتهليل لكل ما يصدر عنهم، حتى لو كان غلطًا، وينتمى إلى المكذوب والمدسُوس، والحكايات المتواترة، والقصص الخيالية، أكثر من صلته بصحيح الدين وسُنَّة نبى الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام.

فلسنا فى مجتمع البداوة، بل نعيش عصر المدنيَّة والتدوين، وحرية فى القول والتعبير والاعتقاد والفكر، وليس الاجتهاد نقيصةً، ولا النظر فى أمور الدين والدنيا عيبًا، لأن تغييب التفكير والبحث هو موت وحتف للكلمة وصاحبها، ونهاية لمصير التأمُّل والتعمُّق والمساءلة فى شتَّى المسائل.

إن اليأس الذى يصيب الكُتَّاب من تكرار حوادث ازدراء الكُتب والكُتَّاب، والتى يُطلق عليها قانونيًّا (ازدراء الأديان)، هو ما يجعل الكُتَّاب يُحجمون عن التأليف، أو يمارسون رقابةً ذاتيةً على أنفسهم، ويعملون الحذف والشطب والمحو فيما يكتبون، أو يتوقفون عن الكتابة كليَّةً، أو يحرقون ما كتبوا لانعدام الجدوى منها، كما فعل أبوحيان التوحيدى يومًا ما، والذى أرسل رسالةً توضيحيةً إلى القاضى أبى سهل على بن محمد يشرح فيها لماذا جعل كتبه طعامًا سائغًا وسهلا للنار، خُصوصًا أنه رأى أن ما كتبه أورثه الذل: (وأنا أعوذُ بالله من علمٍ عاد كلاً وأورث ذلاً، وصار فى رقبة صاحبه علاً- وهذا ضرب من الاحتجاج المخلوط بالاعتذار- ثم اعلم، علمك الله الخير، أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سره وعلانيته، فأما ما كان سرًّا فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغبًا، وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالبًا، على أنى جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم ولمد الجاه عندهم فحرمت ذلك كله- ولاشك فى حسن ما اختاره الله لى وناطه بناصيتى، وربطه بأمرى- وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجَّة على لا لى، ومما شحذ العزم على ذلك ورقع الحجاب عنه، أنى فقدت ولداً نجيباً، وصديقًا حبيبًا، وصاحبًا قريبًا، وتابعًا أديبًا، ورئيسًا منيبًا، فشق علىّ أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنسون عرضى إذا نظروا فيها، ويشتمون بسهوى وغلطى إذا تصفحوها، ويتراءون نقصى وعيبى من أجلها...).

(وكيف أتركها لأناسٍ جاورتهم عشرين سنةً فما صح لى من أحدهم وداد، ولا ظهر لى من إنسان منهم حفاظ، ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة فى أوقاتٍ كثيرةٍ إلى أكل الخضر فى الصحراء، وإلى التكفُّف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطى الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح فى قلب صاحبه الألم...).

وطوال التاريخ العربى الإسلامى، كان هناك صراعٌ دامٍ بين الكاتب والسلطان، أو بين الكتابة والسلطة، أو بين المثقف والحاكم، ولذا لم تنته صفحات المدوَّنات العربية من تسجيل الحوادث المتعاقبة فى ملاحقة السلطة دينية كانت أم سياسية للكلمة، لمجرد أنها تقول شيئًا لا يُعجب صاحب السلطة، الذى اعتاد أفعال الأمر- فقط- التى تصدر من جهته، وعلى الآخرين تقبُّلها وتنفيذها، والعمل بها دون مراجعةٍ أو مناقشةٍ، كأنَّ الباطل لا يمكن أن يأتيها من أى جانب، أو هى من الأمور الصادرة عن وحى.

وتلك من صور القمع، التى تصدر عن الجهة الأعلى المنتصرة التى تكتب التاريخ، وكل زمام الأمور الدينية والدنيوية بيدها، وأن ما يصدر فى كتب الآخرين ما هو إلا هرطقة وزندقة وكُفر وانحراف عن طريق الدين القويم، ولنا فى محمد عبده، وعبدالمتعال الصعيدى، وعلى عبدالرازق، وطه حسين، ونجيب محفوظ، ونصر حامد أبوزيد، وسواهم أمثلةٌ لا يمكن للتاريخ نسيانها.

فالسلطة تضيق بالمختلف والمغاير والفاعل، وترعى المطروق والعادى والمنافق والمُرائى، ولا تحتفى بالنصوص التى تدلُّ وتشير، وتفتح طريقًا، ولا تحتفل بكتبٍ تُنير وتُلهِم وتحضُّ على الثورة والعلم والعمل، وكونها تنادى من حينٍ إلى آخر بضرورة التصحيح والإصلاح، فهذا لا يعنى أنها دعوة صادقة سيرعاها الحاكم، لأن كل من صدَّق هذه الدعوة وعمل بما جاء فيها من منطلق فكره أولا واعتقاده، كان أمامه مصيران: السجن أو العزل من منصبه.

فعلى مدى التاريخ لا يزمِّر لحاكمٍ إلا الخدم، والتابعون، الذين تنعدم شخصياتهم، والعجزة، والمتقبِّلون لأى حال، والمرتكنون إلى سواهم فى الحل والربط.

ومن يختلف مع السلطة ليس بالضرورة كارهًا لها، ولا مُزدريًا لدينه أو عقيدته، أو محتالا، أو مزوِّرًا، ولا شيطانًا رجيمًا سيتبعه الناس، ولا مجنونًا، بل هو مصلح يحب لوطنه ما يحب لنفسه، ولا يبتغى كغيره مصلحة أو منصبًا، أو مقعدًا فى بيت السلطة، الذى هو دائما على يسارها.

ولا يظنن أحدٌ فى سلطةٍ ما أنه بحرق ما يكتب أو بسجنه، سيقعدنّ عن الكتابة معتزلا، بل إنه جُبِلَ على المقاومة، لأنه لم يعتد العبودية أو التبعية، ولا يحب أن يكون جُزءًا من «ثقافة سائدة»، واعتادت حياته الخُسران لا الربح والكسب، وارتضى أن يعيش فى ظل حرية الكلام.

الحرُّ لا يزاحم أحدًا، بل من حقه أن يزاحم وطنًا، وينتصر له، هازمًا المتخلِّف والرجعى والناقل والمرخى والمستريح والعاطل والمهْمِل والمدلِّس.

إنه الزاهد الأكبر فى كل شىء إلا فى الحرية والنور.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية