x

أيمن الجندي الأصدقاء أيمن الجندي الثلاثاء 02-02-2016 21:27


كان واضحًا أن شيئا غير اعتيادى بالمرة يحدث الليلة فى القهوة القديمة التى لطالما شهدت لقاءات الأصدقاء! لماذا أُطفئت القناديل فى هذا الركن، ومنع الحراس الأشداء رواد المقهى من تخطى ذلك الحاجز؟ وساد جو من التحفز بين الأصدقاء الثلاثة (مراد وحسن وزكى الدين) فى انتظار رابعهم «عماد الدين» الذى تأخر قدومه. ويشاع أنه دُعى للقاء مجلس الحرب من كبار المماليك، بعد الاضطرابات وحوادث السلب والنهب التى عمّت البلاد بعد اغتيال السلطان.

انعقدت الصداقة بين الأصدقاء الأربعة. آخر من تبقى من الشلة القديمة التى عاشت زمانا فى نفس الحارة. مارسوا ألعاب الأطفال صغارا، وغازلوا المليحات فتيانا. وبرغم أن عصابة الصبيان كانت تُعد بالعشرات، فإنه لم يخلص الود لبعضهم البعض إلا هؤلاء الأربعة. كلهم حضروا زفاف بعضهم البعض.

فى انتظار قدوم علاء الدين، تبادلوا أحاديث متقطعة، وذهن كل واحد منهم يعمل بلا انقطاع. ولعلهم استرجعوا فى هذه اللحظات شريط حياتهم. مراد عمل عطارا وطبيبا بعد أن تشرّب من والده المهنة. «حسن» افتتح محلا للأقمشة وتوسعت تجارته بعد أن أقبلت النساء عليه لحديثه الطليّ وبضاعته الفاخرة. زكى وعماد، والذين اكتسبوا من عملهم الحربى لقب «الدين»، والذى لم يكن يُمنح إلا للصفوة، فقد تدرجا فى جيش المماليك. لكن عماد الدين ترقى بسرعة خاطفة وبلغ نفوذا لم يستطع أن يلاحقه زكى الدين. ولم يبدُ أن ذلك كان يسوؤه، أو يؤثر على صداقتهما العتيدة. والحق أنه كان يُسلّم بمزاياه، وأبرزها قدرته على الصمت واتخاذ القرارات الصعبة. منذ زمان بعيد كان زكى الدين انبساطيا وكثير الهذر ولا يبالى بحساسية منصبه، خصوصا مع الشلة القديمة، التى شهدت مجالس الأنس. وبرغم أن عماد الدين كان يجلس صامتا معظم الوقت، فيما عدا ابتسامة خفيفة ونظرة مودة لا شك فيها لأصدقائه القدامى، وحرصه المؤكد على حضور اللقاء الأسبوعى مهما بلغ انشغاله، فيما عدا بالطبع أثناء ابتعاده عن البلاد فى وقائع الحروب.

■ ■ ■

مثل هبة ريح، وجدوه فجأة يجلس بينهم. وتطلعت الأنظار إليه وكأنهم يستحثونه على نتائج المقابلة التى أعلنت بلا شك اسم السلطان المقبل. لكنه استطاع ببراعة أن يدير الحديث بعيدا عن الأحداث المضطربة التى عصفت بالسلطنة. وبرغم الانبساط الذى انتاب حسن ومراد، وهما يسترجعان الذكريات القديمة، فإن زكى الدين هو الوحيد الذى تبدت فى عينيه نظرة متحفظة. ومن آن لآخر يختلس النظرات لصديقه القديم. حاجباه السميكان اللذان يحددان بصرامة عينيه القادرتين على الرمى والطعان. أنفه الحاد المستقيم. وشفتاه الرفيعتان المزمومتان فى إصرار. ووجهه المستطيل وجمود ملامحه الحافظة للأسرار. وفجأة تملكته رعدة وكأنه يكتشف لأول مرة شخصا مختبئا فى ملامح صديقه.

لكن الصديقين الآخرين لم يفطنا. كانت قد أصابتهم أريحية السمر، واندفعوا فى سرد الذكريات القديمة، ونوادر كل واحد منهم ومن ضمنهم عماد الدين. وارتفعت ضحكاتهم فى سكون الحارة المترقب لإعلان اسم السلطان الجديد. وفجأة فهم زكى الدين كل شىء، والاقتراب الحذر للحرس، إذ يبدو أن خلفيته المملوكية جعلته يفطن إلى ما غاب عن صديقيه. قال بصوت متحشرج: «لا يليق يا رفاق ما تحكونه عن جلالة مولانا السلطان».

وقبل أن يفهم الصديقان مغزى الجملة، وبإشارة تكاد لا تُرى من أصبع «علاء الدين»، اندفع الحرس بسيوفهم، فلم يستغرق الأمر غير ثوان معدودات.

للسلطنة تكاليفها الباهظة. وأثقلها على قلبه أن يقطع دابر كل من يعرفون ماضى السلطان.


[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية