سيصل «الباشا» إلى موقعه الجديد.. لديه مسؤوليات صعبة، ويعمل تحت قيادته الآلاف من العاملين، ويتحكم فى مصائر دواوين ومنظمات وأجهزة.
إنه يشعر بعبء المسؤولية، ويريد أن يركز فى عمله، خصوصاً أن التركة ثقيلة، والتحديات صعبة، والوقت ضيق.
لا يشعر الرجل بأنه مدين لأحد، لذلك فإنه يحاسب المُخطئين، ويواجه المُقصِّرين، ويطالب العاملين معه بأقصى درجات الالتزام والنزاهة.
لكن هذا الحارس المُعيَّن لحراسة «الباشا» يشعر بضيق شديد، ذلك أن نفوذه السابق بدأ يتسرب منه، والأخطاء التى يرتكبها فى عمله بدأت تنكشف، والجميع يسلط الضوء على قصور أدائه، وأحياناً تتم مهاجمته، وانتقاد رجاله، ومطالبتهم بمزيد من الأمانة والكفاءة والحرص عند أدائهم عملهم.
لم يَعتَد هذا الحارس أن يكون محل انتقاد، ولم يطالبه أحد من قبل بالالتزام بالقانون، والأهم من ذلك أنه كان يتحكم فى «الباشوات» السابقين.. يقودهم، ويحدد لهم خطواتهم، حتى إن أياً منهم لم يكن يقوى على أن يتخذ قراراً فى أى شأن من الشؤون دون العودة إليه والحصول على موافقته.
شعر الحارس بأن دولته تنهار، وأن حظوته تنتهى، وأن زمانه يُوَلِّى.. والسبب أن «الباشا» يريد أن يعمل ويُدَقِّق ويحاسب ويحقق الإنجاز.
س: ماذا يفعل الحارس؟
ج: «يركب دماغ الباشا».
تلك لعبة قديمة يُتقنها جميع الحراس الذين نشأوا فى أحضان الاستبداد والفساد، وهى لعبة سهلة، ستمنح الحارس الحظوة التى يريد، وستطلق يده من دون حساب، وستحميه من أى مساءلة أو عقاب، وستجعله المتحكم الأول فى كل شؤون «الباشا».. والأهم من ذلك أنها ستمنحه «الحوافز» و«البدلات» و«المكافآت» التى ستبلغ عشرات الملايين، فى بلد لا يبلغ مرتب أعلى رأس فيه مليوناً واحداً فى السنة.
سيبدأ الحارس فى إبلاغ «الباشا» بأن «ثمة تقارير تفيد بتعرض سيادتكم لمخاطر»، وسيُمطره بتقديرات مواقف متشائمة ومُثيرة للقلق، وسيعرض عليه «معلومات سرية» عن أفخاخ تُنصب له، ومؤامرات تُحاك ضده وضد مصلحة البلاد، وسيصطنع أدلة فى حال احتاج، أو سيُضخِّم الأدلة المتواجدة بالفعل، وسيُحرِّفها عن حقيقتها، ليُقنع «الباشا» بأن الوضع خطير.
«لولا الحارس ويقظته لأخفق مشروعى، وربما فقدت حياتى أيضاً».. هذا ما سيبدأ «الباشا» فى الإحساس به، وبالتالى سيزيد من اهتمامه بالحارس، وربما يُرقيه، أو يُعزِّز الثقة فيه، أو يُفرط فى الإغداق عليه، أو يصرف النظر عن محاسبته فى حال أخفق أو تجاوز.
سيبدأ الحارس فى توسيع نطاق سيطرته عند اللحظة التى سيرى فيها أن «الباشا» بدأ فى القلق والتجاوب مع التقارير المصطنعة والمعلومات المختلقة والتقديرات المُبالَغ فيها.
سيُخطر الحارس «الباشا»، صبيحة هذا اليوم، بوجود مؤامرة على حياته شخصياً، وسيطلب منه أن يلزم محل إقامته، لحين القضاء على المتآمرين، وتأمين الأوضاع.
سيظل «الباشا» رهين إرادة الحارس بداعى الأمن، وسيقرر الحارس فى اللحظة التى يريدها أن يطلق سراحه، لكنه سيحدد مسار السير، بداعى تفادى تربص بعض العناصر، ولاحقاً سيحدد وجهة السير أيضاً بداعى «سهولة التأمين أو صعوبته».
فى الواقع أن الحارس يقوم بدور مهم فى مواجهة بعض المشكلات الأمنية، وأن عدداً من رجاله يضحى ويبذل جهوداً كبيرة فى مواجهة مخاطر جدية، وهو أمر يُعزِّز ثقة «الباشا» فيما يفعله، ويُغطى الكثير من أكاذيبه ومبالغاته.
لكن هذا الدور المهم وتلك التضحيات المُقدَّرة لا يمكن أن تغفر للحارس الكثير من الخطايا والتجاوزات التى يرتكبها من وقت إلى آخر، لأن تلك التجاوزات بالذات من بين أهم العوامل التى تمنح تلك المخاطر الفرص لكى تتفاقم ويتسع أثرها.
أما الإشكال الكبير فسيظهر عندما يتمكن الحارس من أن «يركب دماغ الباشا» تماماً، حيث سيبدو «الباشا» حين أذن، ومعه أتباعه وأنصاره وحلفاؤه، مسكونين بهوس الارتياب، يحاربون أشباحاً ومؤامرات مزعومة، مشدودى الأعصاب، متوترين، وخائفين، ومنوَّمين، وعاجزين عن إحراز أى تقدم.. وعاجزين أيضاً عن رؤية الطريق.