الزمان: «28 يناير 2011».. في هذا اليوم الذي أصبح علامة مميزة في تاريخ ثورة يناير، وأُطلق عليه اسم «جمعة الغضب». المكان: شارع أحمد زكى بالمعادى، على مدار اليوم حاول يحاول سكان الحي العبور إلى طريق الكورنيش في اتجاه ميدان التحرير، بينما يمنعهم من التقدم طلقات نارية تطلق من ناحية قسم شرطة المعادى.
جميع المحال في الشارع أغلقت أبوابها، ولم يبق سوى المتظاهرين، يبحثون مع غروب الشمس عن سواتر تخفيهم عن أعين تطاردهم عبر عدسات بنادق لا يخطئ رصاص قناصتها متظاهرَ تلو الأخر.
«ليلتها لم تتوقف الشرطة عن إطلاق الرصاص، وكذلك لم يتوقف الموت.. لأكثر من مرة تقدم متظاهر لإسعاف مصاب فسقط بجانبه».. تقول ذلك والدة هدير عادل، أصغر فتاة قتلتها الشرطة بالرصاص في شارع أحمد زكى، ضمن 8 شهداء من الشارع نفسه قتلوا حين تظاهروا استجابة لدعوة «جمعة الغضب».
بعد 5 سنوات لم يبقى شئ من أثر المعركة سوى آثار طلقات الرصاص على واجهة بعض المنازل، يعرف أماكنها الأهالى جيدًا، وجملة كتبت على سور نادى المعادى تقول: «لا لإعدام ثوار يناير»، أمام سيارتان للأمن المركزى ومدرعتان للشرطة يقفان في الميدان، وفى الناحية المقابلة يقف أفراد من المباحث ممسكين ببنادق ورشاشات آلية، تطل عليهم شرفة منزل هدير.
كان عمر الفتاة حينها 12 عامًا، كانت تشاهد الأحداث من البلكونة، رأت بعينها المتظاهرين وسمعت هتافاتهم قبل أن تصاب بطلق نارى في الرقبة وتسقط على الأرض، يحاول الوالد ألا يسترجع ما جرى في ذلك اليوم، يمتعض وجهه وهو يحكى حين حملها على زراعيه وحاول الخروج من المنزل إلى المستشفى لكنها كانت فارقت الحياة.
يسلم الوالدان بالأمر بعد 5 سنوات على وفاة طفلتهما، تقول الأم: «عادى، الموضوع بسيط، بنتنا ماتت واللى ضربها بالرصاص أخد براءة والدولة بتكرمه، وجايز نطلع إحنا اللى قتلناها».. يلتقط الوالد طرف الحديث ويقول: «ليست المشكلة في قتل ابنتى، فهى واحدة من مئات قتلوا في نفس اليوم، شباب كثيرون لم يتحقق أي شئ مما كانوا يحلمون به».
قضت المحاكم في قضايا قتل متظاهرين الثورة بالبراءة لجميع الضباط رؤساء الأقسام وقتها، وتشهد قضية قتل المتظاهرين المتهم فيها الرئيس المخلوع حسنى مبارك، ونجليه، ووزير الداخلية الأسبق، حبيب العادلى، ومساعديه، تداولًا بين الإدانة والبراءة، على مدار السنوات الخمس السابقة، تأجلت آخر جلساتها التي سبقت ذكرى ثورة 25 من يناير الجارى بأيام حتى الـ7 من أبريل المقبل لتعذر حضور مبارك.
يغض والد هدير بصره عن قصاص الدولة، ويأخذ دفة الحديث إلى ما وصل إليه الحال الآن، يقول: «حالنا أحسن من حال أهالى شهداء كثيرون، لكننا لم نرى أي شئ تحقق، الحكومة عفت عن الضباط، لكنها لم تعفو عن المتظاهرين»، يضيف: «العدل بيقول إن اللى غلط يتحاكم، يا إما تعفى عن الكل، لكن الشباب يموت عشان بيطالب بحقه والباقى يتحبس عشان عاوز حال البلد يتصلح.. ده مش منطق».
تلخص الوالدة نظرتها للواقع بعد 5 سنوات على الثورة، وكل ما يجرى بالنظر إلى ازدواجية الحكومة في التعامل مع الشهداء باعتبارهم بلطجية، ومحاولة نفى الفعل الثورى، في مقابل ذلك فإنها تحتفى بأهالى شهداء الشرطة على قنواتها الرسمية.
تسارع في توضيح المسألة على أنها مجرد عدم مساواة بين الشهداء، تقول: «مثلما ضحى شرطيون بأرواحهم من أجل الأمن، فالثوار ضحوا بأرواحهم أيضًا من أجل مستقبل أفضل لنا جميعًا، لكنهم لم يعلموا أن الحكومة ستشكك في نواياهم».
لدى الوالدان 3 أبناء غير هدير، أكبرهم حسن، لا يبدو منشغلًا بالسياسة، يحلم بأن ينتهى من مرحلة الثانوية العامة ويلتحق بجامعة في أوروبا، أما رؤية وسلسبيل، رغم السن الصغير، فإنها يتذكران هدير جديًا، خصوصًا أنهما التحقوا بنفس المدرسة التي درست فيها هدير مرحلة الابتدائية.
على بعد خطوات من منزلهم، لا تزال صورة منصور فتحى الهلباوى، معلقة على بلكونة منزله، قتل هو الآخر بنفس الطريقة التي قتلت بها هدير، طلق نارى أصابه في رأسه وهو يشاهد الأحداث من بلكونة منزله، أطلقها عليه ضابط كان يقف على سطح مبنى مجاور لسور النادى ويصوب بندقيته على المتظاهرين، شهد وفاته شقيقه الذي يمتلك محل لبيع قطع غيار السيارات أسفل المنزل.
يقول حسن: «بدأت المظاهرات في ذلك اليوم بعد صلاة الجمعة في شارع حسنين دسوقى، طافت المسيرة أنحاء حى حدائق المعادى، ووصلت إلى نهاية شارع أحمد زكى في طريقها إلى كورنيش المعادى للذهاب إلى ميدان التحرير، لكن قوات الأمن كانت تقف أمام النادى تطلق الرصاص الحى على المتظاهرين، كان الصراع أشبه بحرب، ولم يسعف المصابين سوى عمال الدليفرى الذين وقفوا بموتوسيكلاتهم لنقلهم إلى المستشفى».
أثناء ذلك، وبحسب شهادة حسن، وقف أخيه منصور في البلكونة يشاهد المظاهرات وهو يحمل ابنه يوسف على ذراعه، قبل أن يصاب في رأسه بطلق نارى من ضابط كان يقف على سطح مبنى مقابل، حمل حسن، أخيه ونزل وحاول التوجه به إلى المستشفى لكنه كان يعلم أن الأمر انقضى. يقول إن القسم منعه من العبور بالسيارة وهددهم بإطلاق النار عليهم، وهو نفس ما قاله والد هدير.
لم تنجح العائلتان حتى الآن في معرفة هوية الضابط الذي اعتلى السطح وأطلق النار بشكل عشوائى.. يقول حسن إن الشرطة لم تأت لنا سوى للتصالح، ونفوا علمهم بهوية الضابط الذي اعتلى سطح مبنى يبعد دقيقة واحده عن مبنى القسم الذي كان رئيسه العقيد ثورت المحلاوى، قبل أن يصبح مفتش مباحث قطاع شمال القاهرة.
منذ عامين أزال الحى صور الشهداء المعلقة على أعمدة الإنارة في الشارع بدعوى تجديد الأعمدة وتطوير المنطقة، لكن شارع أحمد زكى، لم يشهد أي تطوير، كونت مياه الأمطار برك من الطين وفرضت فوضى المرور نفسها على المكان باستثناء الناحية المقابلة لنادى المعادى التي تتمركز أمامه قوات الأمن.
كانت صور الشهداء معلقة على أعمدة الإنارة، قائمة تضم جميع شهداء المعادى خلال الاشتباكات التي وقعت بين المتظاهرين والشرطة بجمعة الغضب، منهم هدير عادل، ومنصور عبداللطيف، وعلى نبيل عبدالسميع، ومحمود خفاجة، وأحمد الفكهانى، وأحمد سمير، ومحمود رضا، وأحمد هلال عبدالحفيظ، أحد الشباب النوبيين الذين كانوا يسكنون المنطقة.
لازال الأهالى يتذكرونهم، يطلقون عليهم شهداء الثورة، ويعلقون صورهم في الممرات والأزقة الضيقة بعيدًا عن أعين الحى.
في نهاية شارع أحمد زكى، كان يسكن أحمد هلال عبدالحفيظ، وأمه وأخوته الأربعة، قتل أيضا برصاصة اخترقت القفص الصدرى، ودفن ظهر السبت 29 يناير، بعدها بأشهر عادت الأسرة إلى أسوان، ولم يعودوا إلى الشارع مجددًا.