من منا لا يبتهج لمناظر أوراق الشجر فى المروج الخضراء ولمرائى الورود الملونة فى الحدائق؟ من منا لا تملؤه هذه المشاهد الجميلة بمشاعر الحبور والابتهاج والرومانسية والهدوء؟ إن أردت عزيزى القارئ أن تضيف إلى انبساط أساريرك مزيجاً من الدهشة والشغف فأنصحك بقراءة هذا المقال.
تحوى كل ورقة من أوراق النباتات الملونة المبهجة ملايين من الرقائق الإلكترونية المتقدمة التى لا تطاولها أى تكنولوجيا حديثة. تقتنص هذه الرقائق ضوء الشمس من خلال هوائيات فائقة الدقة، ثم تحوله إلى كهرباء. وما تلبث هذه الرقائق أن تطلق هذه الكهرباء بسرعة فائقة إلى «مواقد» مجاورة فى الورقة تقوم بطهو وتجهيز جزيئات السكر التى يستخدمها النبات فى تشغيل عملياته الحيوية. يخلط النبات أثناء عمليات الطهو مقادير من الماء والكربوهيدرات والنشويات النباتية، بالإضافة إلى ثانى أكسيد الكربون الذى يمتصه من الهواء، ثم يطلق نسيماً عليلاً من الأكسجين مصاحباً لتجهيز جزيئات السكر الشهية. وتسمى هذه العملية بشقيها الفيزيائى والكيميائى: البناء الضوئى.
احتار العلماء فى سبر أغوار عمليات البناء الضوئى، التى تصون مخزون الطاقة باقتدار متفرد، معززة بوصلات كهربية فائقة تربط بين هوائيات امتصاص الضوء ومواقد الطهو. وبعد عقود من الدراسات المستفيضة، بدأ العلماء رويداً رويداً فى تحسس طريقهم نحو معرفة خصائص هذه الوصلات الفائقة، التى دغدغت فضولهم وأشعلت دهشتهم. فقد اكتشف العلماء حديثاً ظاهرة عجيبة قد تمهد الطريق لفهم شامل لآليات البناء الضوئى. تفضى هذه الظاهرة إلى تصور مستلهم من ميكانيكا الكم. وميكانيكا الكم هى أحد الفروع المتقدمة فى الفيزياء، تعنى بدراسة حركة الأجسام متناهية الصغر فى النطاق تحت الذرى. ينطوى هذا العلم بشكل أساسى على تمازج بين الخصائص الجسيمية والموجية للأجسام على نحو تبدو معه الأجسام الدقيقة وكأنها سحب طوافة وليست كتلاً ذات تضاريس واضحة تحددها أماكن بعينها فى الفراغ.
يسمح هذا المزيج بحدوث أمور غريبة لا يستسيغها الحدس المألوف فى عالمنا المرئى. فعجائب ميكانيكا الكم تقضى بعدم وجود مسار واحد يربط بين منصات الإطلاق الكهربى فى هوائيات الضوء وصولاً إلى مواقد الطهو فى الورقة، بل إن هناك ملايين من المسارات المتاحة. وعلى الجسيمات الكهربية المسماة الإلكترونات، بمجرد انطلاقها من الهوائى، أن تبحث بنفسها عن أقصر وأيسر المسارات. وهذ أمر عجيب، لأنه يقتضى بالضرورة أن يستكشف الإلكترون المفرد كل المسارات المتاحة فى وقت واحد، بحثاً عن طريق مُعبَّد. وبطبيعة الحال، هذا أمر غير مستساغ، لأن مشاهداتنا فى العالم المرئى لا تتيح للمرء أن يتواجد فى مكانين مختلفين فى وقت واحد، فإن كنت تبحث مثلاً عن منزل ما فى أحد الأحياء، فمن غير المعقول أن تكون متواجداً فى كل شوارع الحى فى نفس الوقت بحثاً عن هذا المنزل. وأقصى ما يمكنك فعله هو أن تجول هذه الشوارع الواحد تلو الآخر. أما ميكانيكا الكم فتسمح للجسيمات بالتواجد فى مكانين مختلفين فى وقت واحد.
تسمى هذه الظاهرة: التراكب Superposition، أى أن ثمة صوراً عدة لنفس الإلكترون يسمح لها أن تتراكب لحظياً وتجول فى كل المسارات الكهربية المتاحة، حتى إذا ما اهتدت إحدى الصور إلى مسار مُعبَّد قصير أخذ بها إلى مواقد الطهو، تلاشت كل النسخ الأخرى فى الحال، واختفت من الوجود. وهذا الأمر على شدة غرابته يفسر بوضوح سر السرعة الفائقة التى تصل بها الإلكترونات الكهربية إلى مقاصدها فى أوراق النباتات والإشعال الفورى لمواقد الطهو فيها.
لماذا يعجز البشر عن التواجد فى مكانين متباعدين فى وقت واحد، فى حين يُسمح للإلكترون بالتواجد فى ملايين الأمكنة فى نفس الوقت؟ هل يمكن أن تتطور تكنولوجيات الفيزياء على نحو يجعلك عزيزى القارئ وأنت تقرأ هذا المقال فى مصر أن تتواجد فى نفس الوقت على شاطئ البحر فى الإسكندرية وفى جولة تسوق فى دبى؟ ألن يكون هذا أمراً نافعاً، يطوى لك الزمن، ويختصر المسافات ويوفر الوقت؟ أرجو عزيزى القارئ أن يكون هذا المقال شاحذاً لخيالك ومثيراً لاهتمامك على نحو يدفعك إلى المواظبة على زيارة الحدائق ومداومة التحديق فى أوراق الشجر والورود.