انتشر الكثير من الشائعات بعد يناير 2011 حول سرقة كنوز الراحلين من ملوك مصر وأمرائها وبيعها في المزادات العالمية أو التدثر بها من برد الشتاء.. والحقيقة أن تلك كانت موضة سائدة في ظل المد الثوري وإلصاق التهم وحمى البلاغات أمام جميع أنواع النيابات.. وعلى الرغم من أن زيارة سريعة لمتاحف قصر عابدين كفيلة بالاطمئنان على كافة الكنوز والمقتنيات وأن جميعها بصحة جيدة ولا صحة للحملات والشائعات، فإن تلك الحملات قد ساهمت في تعريف فئات مختلفة من الشعب بوجود متاحف للرئاسة تضم كنوزاً تاريخية عظيمة.. أملاً في أن تشعر تلك الجموع الشعبية بأهمية تاريخهم وتبدأ التوافد على المتاحف بكثافة وهو ما لم يحدث.. فقد ترسخت في ثقافة البشر اللهاث خلف الفضائح والشائعات والهلع خلف كل ما له قيمة مادية كبيرة ومن ثم لم يتجاوز عدد زوار متاحف الرئاسة العشرة آلاف زائر خلال السنوات القليلة الماضية..
ولكن الغريب أن متحف قصر عابدين قد بدأ برامج تعليمية وبحثية طموحة تتجاوز دور وزارة التربية والتعليم في تعريف الأجيال الجديدة بتاريخ أجدادهم العظماء، حيث بدأ المتحف في استقبال التلاميذ في زيارات ميدانية لمشاهدة تاريخ عرابي وسعد زغلول وشخصيات أسرة محمد على في المكان الأصلي له.. وهو ما يعد تجربة جديرة بالاهتمام والتقدير والتعميم.. حيث يعايش التلاميذ الأجواء الأصلية للأحداث التاريخية وتتحول دروس التاريخ لواقع مرئي ومسموع وبخاصة تجسيد أحداث قصر عابدين البارزة مثل استقبال قرار عزل الخديو إسماعيل وثورة عرابي وحصار القصر في ١٩٥٢ وغيرها من الأحداث.
تسهم تلك التجربة في تجاوز ما يمكن أن تقدمه الكلمات المطبوعة في كتاب مدعم بصورة من هنا أو أخرى من هناك.. وفي نهاية الجولة يعقد المتحف ما يشبه امتحاناً لذاكرة الطلاب فيما شاهدوه من قطع ومقتنيات معروضة وقياس قدرتهم على تذكر اسم القطعة وتاريخها أو بعض المعلومات عنها.. ناهينا عن زيارات طلاب الفنون الجميلة للقصر كموقع بالغ الروعة لطلاب قسم التصوير وبخاصة الحديقة العظيمة حول القصر و«كشك الموسيقى» أو «كشك الشاي» وما أروعه من تصميم لا يمت بأي صلة لمفهومنا عن الكشك الآن.. فالكشك في حديقة قصر عابدين يشبه النصب التذكاري الأبيض لقبر الجندي المجهول بكورنيش المنشية بالإسكندرية في تصميمه العام وزخارفه الخلابة..
ولعل أبرز ما تضمه متاحف قصر عابدين بخلاف سيف التنصيب السوڤيتي الذي لا يقدر بثمن وكمية الأسلحة والمقتنيات الخاصة بأسرة محمد على.. هو تمثال يعد الأكبر في تلك المتاحف يجسد أركان دولة محمد على ودعائمها وأفرادها حيث يتربع «محمد علي» على قمته فوق حصانه وتأتي أسفله عدد من الجداريات تضم قلعة محمد على بوصفها مقر الحكم في عهده وجدارية بارزة يظهر فيها محمد على بين أفراد الشعب المصري ويتمركز في الأركان الأربعة الأمامية أربعة تماثيل، الأماميان لأقرب أحفاده إليه الخديو إسماعيل وفؤاد الأول، والخلفيان لأقرب أبنائه إبراهيم باشا والوالي محمد سعيد.
ويحيط بها جداريات جانبية إحداها لموقعة «نزيب» الحربية بسوريا بين محمد على وجيش السلطان العثماني ١٨٣٩ وانتهت بتدخل إنجلترا وعمل معاهدة بينهما في لندن ١٨٤٠.
وتصور الجدارية الأخرى ضم السودان لمصر تحت قيادة محمد على.. ويأتي المستوى الثالث بأركانه الأربعة التي تمثل أركان الدولة ورموز قوتها في أربعة تماثيل كل منها يجسد فتاة في زي إغريقي أراد الفنان أن يشير بها إلى آلهة الإغريق النوعية ولكل منها اسم فجاء التعليم والعدل في الأمام والزراعة والصناعة في الخلف.
وفي المساحات الجانبية بين التماثيل الأربعة نحتت جداريات تجسد أكبر منجزات محمد على التنموية في مصر وهي الترسانة البحرية بالإسكندرية وزراعة القطن والقناطر الخيرية وتجديد فنار وميناء الإسكندرية لدعم التجارة الخارجية.
ولست أدري ما الذي تنتظره وزارة التربية والتعليم أو الجامعات المنتشرة بالقاهرة لكي يتم تعميم مثل هذه الجولات الميدانية على متاحف الرئاسة ليتعرف الشباب والطلاب على تاريخهم.