عند وقوع حوادث الطائرات فإن إجراءات صرف التعويض لأسر الضحايا تأخذ أشكالاً عديدة. بعض الورثة يقنعون بالمقابل الذى تقرره شركات التأمين طبقاً لتعاقداتها مع شركات الطيران، وبعضهم يرفضه ويلجأ للقضاء.
زمان أيام التذاكر الورقية كانت الشروط والأحكام مكتوبة بوضوح فى المكان المخصص لها من التذكرة، وكانت قيمة التعويض فى حالة الحوادث التى تسفر عن وفاة أو إصابة منصوص عليها فى التذكرة التى كانت تعد بمثابة عقد بين طرفين. أما الآن بعد أن تبنى الغرب فكرة أن التذاكر الورقية لم تعد مسايرة للعصر، فإنه تم استبدال التذكرة القديمة بورقة كراسة يحصل عليها الراكب مكتوب عليها اسمه وتفاصيل الرحلة، لكن بدون أى شروط أو أحكام مما كان يكتب فى التذاكر سابقاً، وأصبح ما يحصل عليه أهل الضحية فى حالات الحوادث هو ما تقرره شركات التأمين بالاتفاق مع شركات الطيران بعد أن ينسبوه إلى كيان دولى غامض اسمه الاتفاقات الدولية!
عندما سقطت الطائرة المصرية قرب الساحل الشرقى للولايات المتحدة عام 99 فإن جانباً من أسر الضحايا تم تعويضه رضاء، لكن جانباً آخر أصر على الذهاب للمحكمة ليقرر القاضى حجم التعويض الذى يستحقه أهل المتوفى طبقاً لمكانته وللأضرار التى وقعت على الأسرة من جراء غيابه الأبدى. معظم من لجأوا للقضاء كانوا من الأجانب الذين قاموا برفع القضايا فى بلادهم. والمعتاد فى مثل هذه الحالات أن القاضى يقدر التعويض مسترشداً بحجم الضرر، ولديهم أن المتوفى ذا الدخل المرتفع يشكل خسارة لأهله أكبر من المتوفى الفقير، والمتوفى شاباً الذى حُرم أطفاله من رعايته يكون تعويضه أكبر من الشيخ العجوز الذى نعم أولاده به طويلا.. وهكذا. غير أن أغرب دفاع قدمه للمحكمة محام عن أسرة سويسرية فقدت ابنها الشاب يبرر به التعويض الضخم الذى طالب به هو قوله لهيئة المحكمة: إن الفقيد الذى كان متمتعاً بالجنسية السويسرية والذى كان يعيش بمدينة جنيف ينتمى لدولة حققت لأهلها دخلاً مرتفعاً ورفاهية لا حدود لها، وبالتالى فإن الحادث قد حرمه من حياة مترفة سعيدة كان مفترضاً أن يعيشها، على العكس من آخرين لا توفر لهم دولهم غير أسباب الشقاء والتعاسة!..
ومضى المحامى فى مرافعته: كما أن دولة كسويسرا لم توفر المستوى المادى المرتفع فقط، وإنما قدمت الأمان أيضاً.. هل تعلم يا حضرة القاضى أن الناس فى سويسرا بوجه عام لا يموتون إلا بسبب الشيخوخة وبعد أن يقضوا بالدنيا أطول فترة مريحة يمكن أن يقضيها إنسان؟.. وهل تعلم أن أكبر معمرى العالم موجودون هناك، فالناس لا تموت فى سويسرا بسبب نقص الغذاء أو افتقاد الرعاية الصحية ولا تموت بسبب التلوث الموجود فى الماء أو الهواء، كما أنهم لا يفقدون حياتهم فى حوادث المرور إلا فيما ندر، فضلاً عن أن سويسرا دولة محايدة لا ترسل أبناءها لمحاربة الناس فى بلاد أخرى وبالتالى ليس لها جنود معرضون للموت فى كوسوفو أو فى العراق، ولا تقوم حتى بالمشاركة فى قوات حفظ السلام فى أى بؤر متوترة من العالم لأنها ليست أصلاً عضواً فى الأمم المتحدة.. لكل هذا فإن حياة الإنسان السويسرى غالية والتعويض عنها لابد أن يكون متناسباً مع أهميتها.
أدركت بعد أن قرأت دفاع المحامى لماذا قبل غالبية أهل الضحايا من المصريين التعويض المقرر ولم يلجأوا للقضاء، إذ لم يكن بوسع أى محام أن يتحدث عن الرفاهية ولا عن العمر الطويل أو الموت بفعل الشيخوخة، فالموت عندنا بسبب الإهمال والفساد والجشع هو الأصل، والحياة الطويلة الجميلة هى شىء ننتظره فى الآخرة!