فى أعقاب الإطاحة بمبارك خلال ثورة يناير 2011 وحتى كتابة هذه السطور، تبدو القاهرة ممزقةً بين رؤيتين لدورها فى المنطقة. الرؤية الأولى اعتمدها نظام مبارك على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، وهى امتداد لتصور وضعه الرئيس الراحل أنور السادات، ويقوم على أساس أن التورط خارج الحدود المصرية فى صراعات عربية هو أمر لا تستطيع القيام به مصر بمواردها المحدودة، وأن أى تحركٍ عسكرى مصرى فى المنطقة يجب أن يتم تحت غطاء أمريكى، باعتبار أن واشنطن «تملك 99 فى المئة من أوراق اللعب» وأنها «الحليف الأهم والأكبر لمصر»، أو كما قال الرئيس عبدالفتاح السيسى لصحيفة وول ستريت جورنال فى مارس 2015 عندما تحدث عن العلاقة الاستراتيجية مع واشنطن: «لن ندير لها ظهرنا حتى وإن أدارت ظهرها لنا». لذا جاءت المشاركة المصرية فى حرب تحرير الكويت عام 1991 تحت مظلة القوات الأمريكية وضمن عملية عسكرية هدفها واضح وذات مدى زمنى محدود ومقابل دعم اقتصادى وعسكرى معلوم.
الرؤية الثانية حاول رسمها بشكلٍ غائم وزير الدفاع المصرى السابق والرئيس الحالى عندما طرح دوراً مصرياً فى تلبية احتياجات الخليج الأمنية ولخص ذلك بعبارته الشهيرة «مسافة السكة». لكن «مسافة السكة» لم تترجم فى مشاركة مصرية فعالة وكبيرة فى العمليات العسكرية السعودية الإماراتية فى اليمن، أو التحمس لأفكار الرياض بالتدخل عسكرياً فى سوريا. وعلى الرغم من دعوات إعلامية فى القاهرة لتبنى رؤية أكثر جرأة فى التحرك دبلوماسياً وعسكرياً فى المنطقة لمواجهة خطر تمدد الجماعات المتشددة فى المناطق التى تخرج من سيطرة الحكومات المركزية، إلا أن الأداء المصرى الرسمى يبدو ميالاً أكثر للاستمرار فى تطبيق رؤية الرئيس السادات لدور مصر فى العالم العربى.
لكن المعضلة التى تواجه القاهرة الآن هى صياغة رؤية واضحة للتعامل مع الأزمة الليبية، خصوصاً وقد بدأ تنظيم ما يعرف باسم «الدولة الإسلامية» بالتمدد هناك، مستغلاً فراغ السلطة الحاصل بسبب الصراع بين حكومتين تتنازعان السيطرة على البلاد.
الحل السياسى
توصل الطرفان الرئيسيان فى ليبيا إلى اتفاقٍ فى الصخيرات بالمغرب يقضى بتشكيل حكومة وحدة وطنية وإنهاء الانقسام بين حكومة معترف بها دولياً فى الشرق وحكومة غير معترف بها فى الغرب الليبى. أعلن مجلس الأمن الدولى دعمه للاتفاق وأصدر قراراً يشجع الأطراف المتصارعة على تنفيذه. كما أعلنت مصر عن دعمها للاتفاق ورحبت به باعتباره مخرجاً سياسياً لإنهاء الصراع على السلطة فى ليبيا.
وبالرغم من أن الحل السياسى فى ليبيا قد يكون هو الخيار الأفضل والأقل كلفة بالنسبة لمصر، إلا أن المؤشرات على الأرض لا تسمح بمثل هذا التفاؤل. فهناك اعتراضات على الاتفاق من قبل أعضاء بارزين فى كل من مجلس النواب الليبى الذى يتخذ من طبرق مقراً له، والمؤتمر الوطنى العام الذى يتخذ من طرابلس مقراً له.
دروس التاريخ المؤلمة تعرقل التدخل العسكري.. وعدم التحرك يعني مواجهة مخاطر أكبر مستقبلا
وينبغى التوقف هنا عند الاجتماع الذى جرى مؤخراً بين الرئيس المصرى ورئيس المجلس الرئاسى لحكومة الوفاق الليبية التى تم الاتفاق عليها فى اتفاق الصخيرات، حيث طالب السيسى برفع حظر توريد السلاح المفروض على الجيش الليبى (الذى يتبع برلمان طبرق) من أجل أن يقوم بمهامه فى فرض سيطرته الأمنية. وهو الطلب الذى يمكن ترجمته إلى أن مصر قد تكون مستعدة لدعم هذا الجيش بالتسليح والتدريب وربما الدعم الجوى من أجل أن يقوم بالقضاء على التنظيمات المتشددة، وهو ما يمثل الحل الأنسب أمام القيادة السياسية المصرية فى الوقت الراهن.
هل تصبح ليبيا فيتنام أخرى؟
يحكى أن الرئيس المصرى الراحل جمال عبدالناصر قال للسفير الأمريكى فى ربيع عام 1967 كيف تحولت اليمن «لفيتنام» الخاصة به، عندما أرسل كتيبةً عسكريةً عام 1962 وانتهى به الحال وقد أرسل أكثر من سبعين ألف جندى إلى هناك! فهل تتورط مصر فى حرب خارج حدودها فى المستقبل القريب بالرغم من دروس حرب اليمن فى ستينيات القرن الماضى؟
تبدو الإجابة الأكثر ترجيحاً أن حرباً إقليمية كبرى قد تستدعى من صُناع القرار فى القاهرة تدخلاً عسكرياً إذا فشل الحل السياسى فى ليبيا، كما هو متوقع. ففى حين يرى البعض أن دولاً كبرى فى المنطقة تنهار من الداخل وتترك فراغاتٍ تسمح لجماعات متشددة بالتمدد، يرى آخرون أن حدود المنطقة يتم إعادة رسمها لأول مرة منذ السنوات التى تلت الحرب العالمية الأولى. ففكرة الدولة الوطنية/القومية فى الشرق الأوسط، والتى هيمنت على المنطقة خلال المائة عام الأخيرة، توشك على الأفول، وذلك فى الوقت الذى تتصاعد فيه النزعات لإقامة دول على أساس دينى أو عرقى أو قبلى مثلما هو حادث فى سوريا والعراق وليبيا، وهو ما سيفرض على القاهرة تحدياتٍ كبرى تستدعى تحركاً سريعاً لمواجهتها.
ومن الصعب تصور أن القائمين على صناعة القرار فى القاهرة لا يدركون مخاطر التفكك الحاصل فى ليبيا، خصوصاً وأن تنظيم «الدولة الإسلامية» يستغل هذا التفكك، وهو ما يشكل خطراً على الأمن المصرى بسبب صعوبة السيطرة على الحدود بين البلدين والتى تمتد على طول أكثر من ألف ومئة كيلو متر.
يدرك الأوروبيون، وتحديداً الفرنسيون والإيطاليون، أن الصراع فى ليبيا يلقى بظلاله القاتمة على ملف الهجرة غير الشرعية، والتى باتت مصدراً للقلق الأمنى بعد هجمات باريس. ولا يستبعد المتابعون للشؤون الداخلية الفرنسية أن تقرر باريس القيام بهجمات جوية على مراكز المتشددين الإسلاميين فى ليبيا. لكن الكل يعلم أن الهجمات الجوية لا تستطيع بمفردها التخلص بشكل كامل وكلى من وجود الجماعات المتشددة، وأن الهدف منها هو تمهيد الأرض للقوات البرية.
ولأن الولايات المتحدة والقوى الغربية الكبرى أعلنت وبوضوح أنها لن تتورط برياً فى هذه المنطقة المضطربة من العالم، فإن الأكثر ترجيحاً أن القوات البرية التى ستتدخل ستكون من داخل المنطقة وتحديداً من مصر. وربما سيكون طموح القيادة السياسية فى القاهرة أن تحصل على دعم من السعودية والإمارات ضمن مظلة «قوات التحالف الإسلامى»، التى أعلنت عنها مؤخراً الرياض أو ضمن مظلة «القوة العربية المشتركة» التى ترغب فى إقامتها القاهرة، وتواجه تحفظاتٍ من الرياض وعواصم خليجية.
لكن الحرب فى ليبيا قد تفرض على القاهرة تحركاً عسكرياً، ستأمل القاهرة أن يكون محدوداً وأن يكون مدعوماً عربياً وغربياً من خلال غطاء عسكرى ودعمٍ مالى. ومن يتابع صفقات السلاح الأخيرة لمصر، ومن أبرزها حاملتا المروحيات «ميسترال» وفرقاطة «فريم» ومقاتلات «رافال» الفرنسية و«ميج 35» الروسية، يدرك أن القاهرة تستعد لحربٍ خارج حدودها. وأن هذه الحرب لن تكون على جبهتها الشرقية، حيث العدو التاريخى، بل على الحدود الغربية حيث التهديد الأكثر إلحاحاً. ومن اللافت هنا الإشارة إلى موقفين: الأول موقف إسرائيل والذى جاء على لسان وزير دفاعها عندما صرح لبى بى سى بأنه لا يخشى من صفقات السلاح المصرية الأخيرة مع روسيا وفرنسا، وأنه لا يرى أنها موجهة ضد إسرائيل، بل إنه يعتقد أنها تأتى تلبيةً لتحديات إقليمية كبرى تواجهها القاهرة، ليس من بينها إسرائيل!
الموقف الثانى هو موقف الجزائر التى أعلنت أكثر من مرة عن رفضها لأى تدخل عسكرى فى ليبيا، وعن دعمها للحل السياسى كمخرج وحيد للأزمة الليبية. وهى كانت قد تحفظت على فكرة مصر بإنشاء قوة عربية مشتركة، كما لم تكن من ضمن الدول التى أعلنت السعودية أنها ستنضوى تحت مظلة التحالف الإسلامى. وهى تاريخياً ترفض أن تكون جزءاً من أى أحلاف عسكرية. ومن الصعب تصور أن تقوم مصر بالتحرك عسكرياً فى ليبيا دون أن تنسق مع الجزائر.
الانسحاب الأمريكى من المنطقة
من غير المستبعد إذا وجدت القاهرة أن التدخل العسكرى فى ليبيا لن يعيد هذا البلد إلى ما كان عليه من سيطرة مركزية من قبل حكومة غير معادية، فإنها قد تفكر فى فرض سيطرتها على المنطقة المحاذية لحدودها من أجل منع تمدد الجماعات المتشددة. وهو الأمر الذى ربما لن يجد معارضةً أمريكية.
فالولايات المتحدة منذ بداية رئاسة أوباما نفذت انسحاباً منظماً من المنطقة، توجته بالاتفاق النووى الأخير مع إيران. وهى كقوة عظمى، غير راغبة فى التورط عسكرياً بجنودٍ على الأرض فى منطقة مضطربة ومليئة بالصراعات المحلية التى لم تحسم نتيجتها بعد. وأنه من الأفضل، وفقاً لرؤية دوائر صناعة السياسة الخارجية فى واشنطن، البقاء بعيداً ريثما تصعد قوى يمكن التعامل معها كمراكز قوى رئيسية فى الشرق الأوسط. وهذا ما يفسر الابتعاد الأمريكى عن قيادة العمليات العسكرية للإطاحة بنظام القذافى، أو ما كتبته مجلة الإيكونوميست خلال الحرب فى ليبيا عن أن التعامل الأمريكى مع الثورة الليبية كان بدايةً لتبلور ما أطلقت عليه اسم «عقيدة أوباما»، والتى تقوم على عدم تكرار التدخل العسكرى الواسع فى المنطقة كما حدث فى العراق فى 2003، وترك مصير المنطقة بيد أبنائها/ قبائلها أو جماعاتها العرقية. وهو الأمر الذى بدا واضحاً فى الموقف الأمريكى فى كل ملفات المنطقة المشتعلة منذ 2011، بما فيها الملف العراقى الذى انتقل من مرحلة انتفاضة العشائر ضد سياسات حكومة رئيس الوزراء السابق نورى المالكى إلى مرحلة تمدد تنظيم الدولة الإسلامية وسيطرته على نحو ثلث مساحة العراق.
تكمن أزمة القاهرة فى التعامل مع مشكلات المنطقة فى أمرين: الأول أن مصر بظروفها الحالية لا تبدو قادرةً على تحمل تبعات انهيار دول المنطقة وتحديداً ليبيا. والثانى أن القيادة السياسية المصرية لم يبدُ عنها حتى الآن ما يشير إلى امتلاكها رؤيةً واضحة للتعامل مع مخاطر دولة فاشلة بمساحة وموارد ليبيا. ومن المخيف أن دروس التاريخ المؤلمة لا تدفع باتجاه التدخل عسكرياً فى حربٍ مفتوحة خارج الحدود، كما أن عدم التحرك قد يعنى مواجهة مخاطر أكبر لاحقاً!
لحظة غير مناسبة للتعامل مع زلزال!
*صحفى مقيم فى لندن