«استخدام السلاح، أو التهديد باستخدامه، لتحقيق أهداف سياسية أو دينية أو إثنية» هو الإرهاب. يقع هذا التعريف، بالكيفية إياها، فى جوهر أدبيات القوات المسلحة الأمريكية، لكن البيت الأبيض يتجاهله كما يذهب تشومسكى. إحدى الوثائق الدبلوماسية المسربة، تعود إلى العام ٢٠٠٩، قالت على لسان هيلارى كلينتون إن السعودية تمثل أكبر داعم للجماعات الإرهابية السنية فى العالم.
الاتحاد الأوروبى، على الضفة الأخرى، أصدر تقريراً فى ٢٠١٣، أشار فيه إلى أن استثمارات السعودية على المشاريع الدينية الوهابية فى جنوب وجنوب شرق آسيا بلغت عشرة مليارات دولار، ذهب جزء كبير منها إلى جماعات إرهابية مثل «لشكر طيبة». ومع نهاية خريف ٢٠١٥ أسست المملكة العربية السعودية لتحالف دولى ضد الإرهاب شمل ٣٤ دولة مسلمة، مستثنياً إندونيسيا الديمقراطية، ذات الـ ١٨ ألف جزيرة وعدد من السكان المسلمين يتجاوز عدد مسلمى الشرق الأوسط. الأوتوقراطيون الذين قرروا، تليفونياً، مكافحة الإرهاب تركوا الدولة الديمقراطية الأكبر خلف ظهورهم. ربما كانت فكرة التحالف جيدة، لكن الرياض، مركز التحالف، لم تقرر بعد مراجعة نسختها القروسطية من التأويل الدينى، كما يذهب الكاتب الهندى براهما تشيالانى، إذا كانت تفكر بالفعل بمحاربة الإرهاب.
فى الواقع يمكن القول إن ثورة يوليو، فى مصر، والثورة النفطية فى السعودية هما اللتان أسستا لنوع مستدام من الإرهاب فى الشرق الأوسط: الكهنوتية والديكتاتورية. كان البرادعى ذكياً وهو يقول، ثالث أيام الثورة المصرية، إنها ثورة ضد ٥٨ عاماً من الديكتاتورية. وضع البرادعى يده على التاريخ الصحيح، ربما، متوافقاً مع واحد من أهم المتخصصين فى الشؤون المصرية، جون برادلى، فى كتابيه عن الدولتين «مصر من الداخل، السعودية من الداخل». بحسب برادلى، والبرادعى أيضاً، فإن الثورة المصرية والملكية السعودية قد قوضتا أول بذرتين للممارسة السياسية والحكم البرلمانى اللتين شوهدتا فى الجزيرة العربية ومصر مطلع القرن الفائت.
التدخل العربي في اليمن منع تكرار فوضي المليشيات السورية مع المقاومة اليمنية
الكهنوتية والديكتاتورية ليس بمقدورهما مكافحة الإرهاب، فهما أفضل أدوات استدعائه. لاحظ توماس فريدمان فى ٢٠١٠ أنه من بين ٣٥ ألف معتقل فى جوانتانامو لا يوجد معتقل واحد من الهند، رغم أن الدولة يعيش فيها أكبر تجمع للمسلمين فى العالم. الديمقراطية، باعتقاد فريدمان، أتاحت وسائل أخرى للتعبير والاحتجاج.
بحسب تقرير لجيمس كلابر، مدير جهاز الأمن القومى الأمريكى، يوجد فى سوريا حوالى ١٥٠٠ جماعة مسلحة. الإرهاب السلطوى العنيف، ذو البعد الدينى الطائفى/ القِطَاعى، فى مواجهة خطاب الحرية والديمقراطية الذى نادت به الثورة السورية جعل من سوريا أكبر مدرسة للإرهاب على ظهر الكوكب. ليست الكتب المقدسة من أنتج الإرهاب فى سوريا، بل الديكتاتورية هذه المرة. من اللافت أن الإعلام الألمانى يلخص، من وقت إلى آخر، المسألة السورية على نحو شديد الكثافة: خرج المتظاهرون ينادون بالديمقراطية فأطلق النظام عليهم النار بذريعة إنهم إرهابيون. عادوا وحملوا السلاح ضد من أطلق عليهم النار بحجة أنه لم يعد شرعياً.
إرهاب الدولة لن يخلق استقراراً، والكهنوتية هى زيت الإرهاب الدينى. كانت هيلارى كلينتون تسخر، فى مذكراتها، من جملة سمعتها من الرئيس المصرى السابق محمد مرسى. أخبرها مرسى أن الإرهاب فى سيناء سينخفض مع وجود رئيس إسلامى فى القاهرة. بحسب كلينتون فقد كانت تلك رؤية شديدة السذاجة للإرهاب. مرسى، من جهته، حاول على نحو حثيث تشغيل بعد آخر للإرهاب من خلاله عمله الدؤوب على إسناد الدولة إلى كهنوتية جديدة. عبر البرلمان أصر هو وحزبه على أن تكون ثمة مرجعية دينية عليا، واقترح الأزهر. بطريقة ما كان يريد أن يحول الدولة فى مصر إلى حالة كالفينية، شبيهة بدولة جون كالفن فى جنيف، قبل خمسة قرون. فرغ كالفن، تدريجيا، المجالس النيابية ثم الشارع من فاعليته مفسحاً المجال، على نحو متزايد، للسلطة الدينية. استغرقت جنيف، بعد ذلك، قرابة الثلاثة قرون لتستعيد عافيتها الجمهورية. لقد وقعت، تاريخياً، فى واحد من أسوأ مزالق الديكتاتورية والعنف طويل المدى. وذلك كان هو مشروع الرئيس مرسى على المدى الطويل.
ما يفعله الحوثيون إرهاب ديني وليس مجرد تمرد مسلح ضد الدولة
غير أن الديكتاتورية ليست الإجابة الصحيحة. كان راسل ميد، أحد أهم كتاب وول ستريت جورنال، واضحاً وهو يكتب قبل عامين: نعم، كنا نساند الإخوان المسلمين ولدينا الأسباب. وضع نصب عينيه ما اعتقد أنه جوهرى فى مسألة الصراع ضد الإرهاب: إفساح المجال للإسلام السياسى من أجل دفع الإسلام الجهادى إلى الحافة، ذلك سيترك للمحافظين والمحتجين فرصة للانخراط فى العمل السياسى بدلاً من العنفى. كذلك: لتقديم نموذج آخر لممارسة الفعل والاحتجاج والتأثير بدلاً عن طريق العُنف. شىء آخر: لحرمان دعاة العُنف من منطقهم الدائر حول فكرة «محاربة الإسلام» عبر القول: انظروا، الإسلاميون يخوضون السياسة، ويشاركون فى المدينة والسلطة، لا أحد يستهدف الإسلام.
الديمقراطية، بكل المعانى، هى الطريق الآمن. غير أن تلك الديمقراطية، فى تقديرى، لا بد أن يتوافر لها شرطان جوهريان: أن تكون ديمقراطية علمانية، لكى لا تنزلق إلى سلطوية كهنوتية. وأن تكون العلمانية ديمقراطية، فى جوهرها، لكى لا تضل طريقها كما حدث فى ألمانيا مع الاشتراكى القومى، حزب هتلر.
الصورة من اليمن، فى مسألة الحرب على الإرهاب، هى خليط من كل الأشياء. فاليمن دولة يتحرك فيها الإرهاب الشيعى، الحوثيون، والإرهاب السنى بالموازاة، القاعدة. مساهمة القاعدة، وصورها الأخرى، فى المشهد اليمنى ضئيلة للغاية. المفارقة فى الحالة اليمنية أن حجم الإرهاب السنى يبدو مجهرياً فى مقابل الإرهاب الشيعى، رغم النسبة الصغيرة للطائفة الشيعية/ الزيدية. هى حربٌ هجينة تقاتل فيها كل الجهات معاً: حرب الدولة ضد المتمردين، حرب المقاومة ضد الثورة المضادة، حرب التحالف العربى ضد الانقلابيين، حرب الجماعات الإرهابية ضد أجهزة الدولة، حرب المؤتمر الشعبى العام ضد الناصريين، حرب الإخوان المسلمين ضد إيران، وحرب الإمارات ضد الإخوان المسلمين، والحرب السلفية ضد الرافضة. هذه الصورة الهجينة جرى امتصاصها، على نحو ذكى، من خلال التأسيس المتسارع لنواة الجيش الوطنى الجديد، ودخول القوات العربية إلى الأراضى اليمنية. كتبتُ أكثر من مرة: لو تأخر التدخل العسكرى العربى لذهب اليمنيون لتشكيل «كتائب القعقاع». لكنهم بعد تسعة أشهر من الحرب شكلوا اللواء ١٠١، والمنطقة العسكرية الخامسة، وحافظوا على مكانهم خلف رئيس منتخب.
المثير، والمركزى فى حرب اليمن، أن التدخل العربى حال دون أن تنزلق جبهة المقاومة إلى حالة الـ«١٥٠٠ جماعة مسلحة» التى شاهدناها فى سوريا. حتى الساعة، وذلك هو الحظ الحسن الوحيد. استطاع الشعب الأشعث والأغبر أن ينظم نفسه على جبهة متماسكة مستنداً إلى شرعية سياسية وأخلاقية، وموقف أممى واضح. ذلك ما لم تحسن المقاومة السورية فعله، فاختلطت بجرعات مميتة من الإرهاب، تفككت إلى عشرات الحروب.
فى حوار جنيف ٢ كان واضحاً أن المجتمع الدولى استوعب طبيعة الأزمة فى اليمن وأعاد تعريفها على أساس: الانقلاب والدولة الشرعية. كان هذا الموقف الدولى، ربما، من أهم أسباب فشل جنيف ٢. فلم يسمع وفد الحوثيين وصالح سوى تلك المطالبات التى يرميها المجتمع الدولى، عادة، فى أوجه المتمردين: اخرجوا من المدن، ارفعوا الحصار، أعيدوا السلاح، التزموا بالدستور والتوافقات السياسية المحلية.
بالموازاة، يحتفظ اليمنيون بتعريفهم للنسخة اليمنية من التمرد: فهو عمل مسلح، عنيف وواسع، ضد حكومة توافقية ورئيس منتخب. وكليا يستند ذلك العنف إلى نظرية دينية. إنه الإرهاب فى نسخة غير سنية، هذه المرة.