x

محمد حبيب الجسر متهالك وآيل للسقوط محمد حبيب السبت 26-12-2015 21:41


كم هى كثيرة تلك المشكلات التى وقع فيها «حسن» خاصة فى تلك الفترة من عمره الباكر.. بعض هذه المشكلات كانت بسبب شجاعته وشهامته ومروءته.. كان ضمن فريق «القسم المخصوص» بمدرسة الدكتور على مشرفة الإعدادية بدمياط، وهو الفريق الذى يؤدى عروضا رياضية فى المناسبات والاحتفالات العامة، والتى عادة ما تكون على مستوى المحافظة.. وقد ألزمت المدرسة كل أعضاء «القسم المخصوص» بدفع ثمن الزى الذى يرتديه العضو أثناء العروض.. وفى أحد الأيام فوجئ «حسن» وزملاؤه بالناظر، يدخل الفصل ويطلب من أعضاء الفريق تسديد مبلغ عشرة قروش ثمن «الكاب» الأحمر الذى سوف تشتريه المدرسة للأعضاء حتى يكونوا متميزين عن نظرائهم من المدارس الأخرى أثناء العروض..

وعلى الرغم من هيبة الرجل، إلا أن «حسن» قام إليه معترضا على مسألة العشرة قروش، وقال: أنا لا أستطيع أن أذهب إلى أبى لأطلب منه هذا المبلغ.. التفت الناظر إليه وهو فى حالة ذهول.. لقد فاجأه «حسن» بما لم يعهد مثيلا له من قبل، إذ كيف يعترض عليه غرّ صغير فى الثانية عشرة من عمره ويخاطبه بهذه اللهجة؟!

سأله الناظر فى غضب: ما اسمك؟ قال: حسن أمين.. قال الناظر: وما هو عمل أبيك؟ فرد «حسن»: هو يعمل فى تجارة العلافة.. قال الناظر (معقبا): هو إذن قادر على أن يدفع العشرة قروش؟ قال «حسن»: نعم، لكنى أخجل أن أطلب منه ذلك.. سأله الناظر (متعجبا): ولماذا تخجل؟ وجد «حسن» إصرارا من الناظر، فلم يجد بدًّا من ذكر الحقيقة، فقال: بصراحة.. هذا الأمر لا يخصنى، لكنه يخص بعض زملائى، فأنا أعلم أن حياتهم المعيشية صعبة، وقد دفع لهم أولياء أمورهم ثمن الزى بالكاد، وأعتقد أنهم لن يقووا على التحدث معهم فى مسألة العشرة قروش هذه.. أراد «حسن» - شهامة ومروءة - أن يرفع الحرج عن زملائه، فقرر أن يكفيهم مؤونة هذا الموقف الصعب، ولتكن النتائج ما تكون.. هنا تدخل مدرس الفصل، فقال: يا حضرة الناظر..

نحن نستطيع تدبير مبلغ العشرة قروش من أى بند ولا حاجة بنا لإحراج أولياء الأمور.. ثم استطرد قائلا: أو من الممكن أن نضع شارة حمراء صغيرة على سترة الزى، وأظن أن هذه لن تكلفنا شيئا.. صمت الناظر قليلا، ويبدو أن الفكرة قد أعجبته، فقال: وهو كذلك.. وقبل أن يمضى خارجا، انحنى على المدرس وأسر إليه ببضع كلمات، ابتسم لها الأخير، ثم رمق حسن بنظرة ذات معنى.. تنفس «حسن» وزملاؤه الصعداء، وكأنه أخرجهم من ورطة لا يعرفون كيف يتصرفون حيالها.. وقبل أن يهمّ المدرس بالانصراف نادى على «حسن»، وقال له بصوت خفيض: أنا فخور بك يا «حسن».. لقد أعرب لى الناظر عن إعجابه بشجاعتك، وقال: ما أجدر أن يكون هذا التلميذ قائدا بعد(!).. تأثر حسن بهذه الكلمات تأثرا بالغا، وتمنى لو كان والده موجودا ليسمعها بأذنه.. ذكّرنا هذا بما روته كتب التاريخ عن عبدالله بن الزبير ابن أسماء بنت أبى بكر وربيب أم المؤمنين عائشة (رضى الله عنهما) عندما كان صبيا يلعب مع بعض أقرانه فى إحدى طرقات المدينة، إذ رأوا عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) قادما، ففروا إلا عبد الله.. سأله عمر: لمَ لم تفر مع إخوانك؟ قال عبدالله: لم أرتكب شيئا أخجل منه فأخافك(!).

فى العام الدراسى ٥٤ / ٥٥، كان مقررا على تلاميذ الصف الثانى الإعدادى رواية «فى سبيل التاج» التى كتبها فرانسوا كوبيه أحد أدباء القرن التاسع عشر فى فرنسا، وهى مأساة شعرية تمثيلية، وقد قام بترجمتها إلى العربية الأديب الفذ مصطفى لطفى المنفلوطى صاحب العبرات، والنظرات، وتحت ظلال الزيزفون، وغيرها.. وقد أهدى المنفلوطى هذه الرواية للزعيم سعد زغلول عام ١٩٢٠.. كان يقوم بتدريس هذه الرواية الأستاذ كامل الحارونى مدرس اللغة العربية.. كان الرجل متمكنا، ظريفا، محببا، وهو ما جعله قريبا من تلاميذه.. وفى يوم من الأيام سأل التلاميذ عن رأيهم فى أحد مشاهد الرواية، فرفع «حسن» يده ليجيب، ولما أعطاه الكلمة، قال: أهم ما فى هذا المشهد هو وصف المؤلف لبطل وبطلة الرواية وهما يغيبان معا فى قبلة طويلة.. انفجر الأستاذ الحارونى فى الضحك حتى دمعت عيناه.. ألقى بنفسه على كرسيه، وبعد أن هدأ قليلا قال: قل يا «حسن»..

ما الذى دعاك لاعتبار هذا من أهم المشاهد؟ قال «حسن»: لا أدرى.. ربما لأنه كان مشهدا رومانسيا رغم الظروف المأساوية التى كان يعيشها أبطال الرواية.. قال الأستاذ وهو يبتسم: كنت أتصور أنك مشاغب فقط، لكنى اكتشفت أنك رومانسى أيضا.. فرد «حسن» قائلا: وأشياء أخرى يا أستاذنا..

من المدرسين الذين تركوا فى نفس «حسن» وفى نفوس التلاميذ آثارا لا تمحى، مدرس التاريخ.. كان يدعى عبدالمجيد شاهين.. شاب وسيم، وعلى الرغم من أنه يتكلم عن أحداث التاريخ كأنه عاشق يتحدث إلى محبوبته، إلا أنه كان مدققا، ناقدا، يربط الأحداث ببعضها، ويقول لو أن الحدث تمّ على نحو كذا لكانت النتائج كذا وكذا.. يبدأ الدرس فى الموعد، وينتهى منه فى الموعد.. لم يتغيب يوما واحدا.. أحب التلاميذ فأحبوه، وأحبوا التاريخ أكثر من أى مادة أخرى.. كان مثالا نادرا فى الخلق، فلم يحدث يوما أن تعصب، أو عاب على تلميذ قلة ذكائه، بل كان دائم التشجيع لتلاميذه، يشحذ هممهم ويقوى عزائمهم، ويبث فيهم الأمل.. وقد بلغ من شدة حب التلاميذ له أنهم كانوا يقلّدونه فى كل شىء؛ وقفته، مشيته، صمته، طريقة حديثه، وتأمله عندما كان ينظر من نافذة الفصل إلى الأفق البعيد.. وكانت للرجل «لازمة» وهى أنه كان كثيرا ما يحكّ حاجبه الأيمن بطرف أصابعه، فكان التلاميذ وهم داخل الفصل وخارجه يصنعون صنيعه..

لا أدرى لماذا يهتم الناس بتغيير المناهج فى كافة المراحل التعليمية أملا فى اللحاق بالعصر، وينسون عنصرا مهما وحيويا فى تطوير العملية التعليمية، أقصد به المدرس.. صحيح أن المناهج بشكلها الحالى، فضلا عن الطريقة التى يتم تدريسها بها، تمثل أحد أبرز أوجه التخلف فى مجتمعنا، والذى تنعكس آثاره على كافة مجالات الحياة.. لكن المدرس هو القنطرة أو الجسر الذى تعبر عليه عقول وأفهام التلاميذ إلى المنهج.. وإذا لم تكن حالة الجسر جيدة، فلا يمكن أن نرجو نهضة ولا تقدما ولا رقيًّا.. والحقيقة أن الجسر فى بلادنا متهالك وآيل للسقوط، ويحتاج إلى إعادة بناء، أو على الأقل ترميم عاجل وصيانة دائمة.. المدرسون فى أمسّ الحاجة إلى أن يشعروا بتقدير الدولة لهم، ماديا ومعنويا، حتى يرتفع أداؤهم إلى المستوى المطلوب من حيث إدراكهم لأهمية الدور الذى يقومون به، وكيف يكونون مُثلًا ونماذج جيدة لتلاميذهم، ثم - وهذا هو الأهم - تأهيلهم وتدريبهم على استيعاب المناهج الحديثة بدرجة تمكنهم من الأداء بشكل متميز وخلاق.. والسؤال: هل لدينا خطة للنهوض بالمدرس المصرى؟.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية