x

محمد نور فرحات التعليم ووحدة النسيج الاجتماعى المصرى محمد نور فرحات الخميس 24-12-2015 21:39


ملاحظة مبدئية: يعلق البعض على كتاباتى منذ سنوات مضت أنها تنحو نحو النقد، وأنها لا ترى إلا نصف الكوب الفارغ، وأننى «لا يعجبنى العجب ولا الصيام فى رجب».

وأتساءل: هل مهمة صاحب القلم أن يغازل أهل العجب والصيام فى رجب أم أن يسهم فى الحث على ملء النصف الفارغ من الكوب، وأن ينبه المجتمع إلى ما يراه عيوباً حثاً له على التقدم؟

هناك تعبير ابتدعه أحد الأصدقاء واصفاً به بعض الكتابات التى تستهين بحق القارئ فى مطالعة الكتابة الجادة بأنها أشبه بـ«قزقزة اللب على صفحات الجرائد»، ومن جانبى أعتبر الكتابة فعلاً مقدساً، وأن وظيفة الكاتب ليس أن يمدح هنا ويثرثر هناك، أو أن يستخدم قلمه لحسابات شخصية، ولكن أن يقول الحقيقة أو ليصمت، «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»، وكثير منا يعلنون جهاراً نهاراً أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر ومع ذلك لا يقولون خيراً ولا يصمتون.

وأدعو أبنائى من جيل الشباب إلى أن يسترجعوا من أراشيف الصحف والمكتبات كتابات طه حسين، وأدب يحيى حقى وتوفيق الحكيم، ودراسات سلامة موسى وشبلى شميل ومحمود العالم وميشيل عفلق وساطع الحصرى وغيرهم ليعرفوا من الذى بشّر بالاشتراكية والقومية وأرهص لقيام حركة التحرر العربية، وأدعوهم أيضاً إلى إعادة قراءة كتابات شيخينا محمد عبده وعلى عبدالرازق، والكتابات المبكرة للشيوخ محمد مصطفى شلبى ومصطفى زيد وعبدالوهاب خلاف ومصطفى عبدالرازق ليعرفوا بدايات ورواد حركة التجديد الدينى الحق.

عند هؤلاء وغيرهم كانت الكلمة رسالة تسهم فى تغيير واقع مجتمعهم ولو بعد حين، مهما طالت حبال الصبر، إن تراكم الوعى هو الذى يصنع التغيير، ولو كانت الأمية الأبجدية ثم الرقمية قد انقشعت غشاوتها عن عقول الكثير من أهلنا، ولو كان إعلامنا المرئى والمسموع قد تحرر من سطوة الأمن والإعلان وانصرف عن اللهو واللغو والعبث وتزود بجرعة عالية من الثقافة، لكان الحال غير الحال.

هذه المقدمة الطويلة أسردها لكى يتسع صدر القارئ لحديثى عن نظام التعليم فى مصر وما جرّه علينا من كوارث أقلها التفتت الاجتماعى، كان ولدى «عمر»، «الذى أوشك الآن على مناقشة رسالته للدكتوراه فى فلسفة القانون بجامعة كولومبيا»، مجنداً بالجيش منذ سنوات ومنخرطاً فى معسكر الإعداد، بعدما رجع لنا فى إجازته حكى لى عن حوار جرى بينه وبين زميله المجند القروى المقيم معه بنفس العنبر، وهو الذى أنهى تعليمه الثانوى فى مدرسة من مدارس القليوبية المشهورة بنسبتها العالية من المتزمتين، دار بينهما الحوار التالى، سأله: ما هى المدرسة الثانوية التى درست بها يا عمر؟ رد قائلاً: الجيزويت، تساءل المجند القروى مندهشاً عن معنى الكلمة ونوعية المدرسة، رد عمر بأنها مدرسة يشرف عليها الآباء الكاثوليك، تساءل صاحبنا بفزع واندهاش: إذن أنت تعلمت مع النصارى، بالله عليك حدثنى عنهم وعن طباعهم، وهل هى مثلنا أم مختلفة عنا؟

إلى هذا الحد وصل التباعد الثقافى والفكرى بين شرائح المجتمع المصرى لدى شباب من فصيل عمرى واحد، وتأملت الأمر: لدينا فى مصر نظم تعليمية محصلتها النهائية إنتاج مجتمع متشرذم ثقافياً، لدينا تعليم دينى أزهرى وتعليم مدنى دنيوى، وتعليم أزهرى مزيج بين الدينى والدنيوى، ولدينا تعليم مدنى وتعليم عسكرى، ولدينا تعليم حكومى عام للفقراء من أغلبية الشعب لا يتعلمون بين جدران مدارسه شيئاً، وإلى جانبه تعليم خاص للأثرياء يدفعون فيه عشرات الألوف من الجنيهات، وفى داخل التعليم الحكومى لدينا مدارس عادية وأخرى تجريبية، ولدينا تعليم مصرى وتعليم أجنبى يتلعثم خريجوه عندما يتحدثون العربية، ولدينا تعليم عام وتعليم فنى أبعد ما يكون عن مضمونه، ولدينا بدعة ظهرت وانتشرت منذ عهد السادات عندما بدأ فى تديين الدولة هى بدعة المدارس الإسلامية، وأغلب هذه المدارس على اختلاف أنواعها، فيما عدا المدارس الخاصة، لا يذهب إليها طلابها، بل يتلقون أصول حرفة ومهارات أداء الامتحان بتفوق فى مراكز خاصة يجرى الإعلان عنها وعن مدرسيها على الجدران فى الطرقات كما يجرى الإعلان عن محال السباكة والحلاقة ومطاعم المأكولات الشعبية، ولدينا دولة تقف عاجزة عن التعامل مع هذه الفوضى فى تدمير الشخصية المصرية.

الجيل الذى أنتمى إليه تعلم فى مدارس حكومية عندما كان التعليم كالماء والهواء، وكان من يلتحق بالمدارس الخاصة هم الفاشلين الذين تلفظهم المدارس الحكومية، كان ناظر مدرسة التوفيقية الثانوية التى تعلمت بها يحمل لقب البكوية، وكانت مدرستى التى تعلمت بها مجاناً تضم مكتبة وحجرة موسيقى وحماماً للسباحة وملعبين للتنس ومثلهما لكرة السلة والطائرة وملعباً كبيراً لكرة القدم وجيمانزيوم ومعملين، أحدهما للفيزياء والآخر للكيمياء، وكان الطالب صاحب الترتيب الأول على الثانوية العامة زميلى بالفصل وحصل على مجموع 84 فى المائة.

وكانت دروس الموسيقى وتمارين الألعاب البدنية أحب الدروس إلينا، وعندما تخرجت دفعتنا فى الثانوية العامة «وكانت الدول الغربية وقتها تفرض حصاراً قوياً على نظام عبدالناصر بعد تأميم القناة»، ابتعثت الدولة أوائل الثانوية العامة إلى الاتحاد السوفيتى لدراسة الفيزياء والكيمياء والرياضة والبيولوجى والاقتصاد والإدارة والموسيقى والمسرح والباليه، وهؤلاء هم الذين عادوا بعد حصولهم على الدكتوراه ليقودوا حركة التعليم والثقافة والبحث العلمى فى مصر وإلى الآن.

هذه إطلالة تاريخية من واقع الخبرة الشخصية عما كان عليه نظام التعليم فى مصر منذ حوالى نصف قرن عندما كان نظاماً رشيداً، وعندما كانت الدولة كفُؤة تنهض بواجباتها، اليوم أتساءل: هل لو اجتمع نفر من خريجى جامعة حكومية إقليمية مع بعض نظرائهم من خريجى جامعات الحضر، وخريجى أكاديمية الفنون، وخريجى جامعة خاصة أجنبية كالفرنسية أو الألمانية أو البريطانية، ناهيك عن الجامعة الأمريكية مع خريجى الأزهر، هل لو اجتمع هؤلاء سيجدون قاعدة معرفية أو ثقافية ينطلقون منها للتفاهم المشترك؟ هل سيفهم أحدهم الآخر، أم سيتعاملون تعامل الغرباء مع بعضهم البعض؟ «بالمناسبة لم تكن الدرجة العلمية التى تمنحها الجامعة الأمريكية معترفاً بها من الحكومة المصرية حتى بداية الثمانينيات، لأنها لم تكن ترقى إلى مستوى جامعات الدولة».

المشكلة أكبر وأشد خطورة من مجرد تشرذم المنطلقات والمستويات الثقافية لخريجى مؤسسات التعليم المصرية، المشكلة أصبح لها جانبان: أحدهما طبقى، والآخر يتعلق بتجانس النسيج الاجتماعى، أصحاب التعليم المتميز الذين يدفعون ثمناً باهظاً له هم الذين أصبحوا لكفاءتهم ولوضعهم الطبقى يشغلون أرقى وظائف المجتمع بأجور مجزية، أما خريجو التعليم الحكومى الذى يتعاطاه الفقراء فقد وطّنوا أنفسهم على الانتظار طويلاً حتى يسعدهم الحظ بعمل لم يؤهلهم تعليمهم له «باستثناء المستفيدين من منطق الأسياد والعبيد فى التعيينات القضائية».

وتتحدث الآن، ودون خجل، بعض دوائر الدولة عما تسميه التدريب التحويلى، أى إعادة تدريب خريج الحقوق ليصبح نجاراً، وخريج التجارة ليصبح عامل محارة... وهكذا، وهذا اعتراف صريح بفشل نظام التعليم دون اعتذار من أحد.

الجانب الأكثر خطورة أن مقولة الشيخ إمام عيسى عن أن أهل بلدى ليس بينهم تفاهم يجمعهم قد تحققت على أرض الواقع، فما الذى يجمع خريج الجامعة الأمريكية أو الألمانية مع خريج معهد الأزهر بقرية «تفهنا الأشراف» أو مع خريجى المدارس الفنية والمعاهد المتوسطة.

كل دول العالم يوجد بها حد أدنى من أساسيات المعارف والعلوم والثقافة تتوافر للجميع، ثم يذهب كل طالب فى طريق يختاره لنفسه حسب ميوله، إلا مصر حيث يتحدد مصير الطالب بالقدرة المالية والمكانة الاجتماعية لأهله.

أزيدكم فى الأمر قولاً: لا أشك لحظة واحدة أن الصراع الذى شهدته مصر بعد سقوط دولة مبارك، بين أنصار الدولة الدينية على اختلاف مشاربهم وأنصار الدولة المدنية كان فى بعض جوانبه غير المعلنة صراعاً بين الفقراء والأغنياء، بين أهل الريف والحضر، بين ذوى التعليم العصرى والتعليم المحافظ، بين النخبة وملح الأرض، بين سكان المنتجعات وسكان العشوائيات... وهلمّ جرا، ومازالت النار تحت الرماد.

ويبقى السؤال: هل نحن شعب واحد أم عدة شعوب؟ وكيف يمكن أن نتبنى نظاماً للتعليم يعيد التجانس الاجتماعى للمصريين؟ وللحديث بقية.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية