عشاق الكرة الأرجنتينية «راقصى التانجو» وأشهرهم مارادونا وميسى، ومن تابعوا سباق الانتخابات الأرجنتينية الأخيرة الذى كان أشبه بنهائى كأس العالم من حيث حدة المنافسة وسخونة السباق، وبنظرة عميقة لما أسفرت عنه، نكتشف أننا أمام دولة غيرت من توجهها السياسى فى ليلة واحدة من اليسار إلى يمين الوسط، فبعد فوز الليبرالى المعارض «موريسيو ماكرى» بمقعد الرئاسة على مرشح السلطة واليسار «دانيال سيولى» المدعوم من الرئيسة السابقة «كريستينا فيرنانديز» فى الدورة الثانية للانتخابات بنسبة 54% مقابل 46%، تطوى الأرجنتين عصر «آل كيرشنر» الموالى لتيار اليسار (روسيا والصين) والمعارض لتوجهات الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبى الرأسمالية الليبرالية، والذى استمر 12 عاما بدءاً بـ(آنستور كيرشنر) 2003- 2007 ثم أرملته كريستينا التى خلفته فى الرئاسة.
الرئيس الجديد ذو الستة وخمسين عاما، أول رئيس للأرجنتين يتم انتخابه فى جولة ثانية، متجاوزا العرف المعتاد بأن يكون الرئيس محامياً، فماكرى مهندس يدير أعمالا عائلية أسسها والده رجل الأعمال الإيطالى الأصل والذى يعد من أغنى العائلات فى البلاد، ترأس ماكرى نادى (بوكا جونيورز) لكرة القدم النادى الأكثر شهرة فى البلاد 1995 - 2007 ما جعل له شعبية هائلة خاصة بعد فوز ناديه بـ17 كأسا دوليا فى عهده، وتم اختطافه 1999 للحصول على فدية، ورغم دخوله العمل السياسى متأخرا بعد أن أسس حزبه «الاقتراح الجمهورى» (برو) عام 2003 ثم أصبح نائبا للبرلمان عام 2005 وتولى منصب عمدة العاصمة بيونس آيريس 2007، إلا أنه وسع قاعدته الشعبية خارج العاصمة عبر إقامة تحالف مع الاتحاد المدنى الراديكالى (يسار الوسط) الذى زوده بشبكة وطنية ساهمت بإيجاد ائتلاف قوى خاض من خلاله ماراثون الانتخابات الرئاسية تحت شعار «دعونا نغير» (كامبيموس).
وبفوز موريسيو ماكرى برئاسة الأرجنتين ستكون زوجته «جوليانا عواضة» 41 عاما، المسلمة اللبنانية الأصل سيدة الأرجنتين الأولى، وهى واحدة من أهم سيدات الأعمال فى الأرجنتين فى مجال صناعة النسيج، من أب لبنانى مسلم من بعلبك يدعى إبراهيم عواضة، وأم سورية، جوليانا ولدت فى بوينس آيريس وتزوجت ماكيرى عام 2010 أثناء توليه منصب عمدة العاصمة، وهى زوجته الثالثة وأم ابنته ذات الأعوام الثلاثة.
أما كريستينا كيرشنر التى رأست- ثالث أكبر اقتصاد فى أمريكا اللاتينية منذ 2007- واتسم الاقتصاد فى عهدها بالبطء والتضخم لأكثر من 30% نظرا للدعم الحكومى للطاقة والنقل بنسبة 20% فبات خطر الركود على الأبواب، لم تتمكن من الترشح فى هذه الانتخابات، لأن الدستور يمنع الترشح لولاية ثالثة، ومن المقرر أن تسلم الرئيسة المنتهية ولايتها مهام الرئاسة لماكرى فى 10 ديسمبر الجارى، وينتقل الرئيس الجديد إلى القصر الرئاسى (القرنفلى)، من جانبه اعترف مرشح اليسار الحاكم «دانيال سيولى» 58 عاما بهزيمته أمام «موريسيو ماكرى» مهنئا الرئيس الجديد على انتخابه ومحذرا من سياساته التى قد تؤدى لتخفيض قيمة العملة المحلية «البيزو» وتضعف الرواتب والمعاشات التقاعدية للطبقة العاملة قائلا: «أنا أدافع عن دور الدولة بينما ماكرى يدعم دور السوق».
فيما احتفلت العاصمة بيونس آيريس- باريسية الطراز- بفوز عمدتهم «موريسيو ماكرى» الذى رقص على خشبة المسرح فى مسيرة النصر وسط أنصاره، مشددا فى خطاب الفوز على ضرورة مكافحة المخدرات ومنع التهريب والقضاء على الفقر بشكل كامل فى بلاده، ومطالبا الشعب بالوقوف معه: «أنتم من أوصلنى للرئاسة، أنتظر منكم بعض الصبر، فلا تتركونى وحيدا».
التحول من اليسار إلى اليمين اقتصاديا وسياسيا ليس بالأمر الهين على ماكرى، فشبح الانهيار الاقتصادى الذى حدث عام 2002 نتيجة التطبيق الخاطئ والفاسد للسياسات الليبرالية للرئيس الأسبق «كارلوس منعم» وسابقيه فى التسعينيات بخصخصة خدمات الدولة ووضع أعداد كبيرة من موظفى الدولة كجزء من برنامج السوق الحرة يطل برأسه من جديد، لذلك قد يكون من الملائم لماكرى التحول تدريجيا من اليسار إلى يسار الوسط وليس يمين الوسط، إذا كان لا يرغب فعلياً فى حدوث اضطراب اجتماعى وغضب شعبى فى بلاد يدفع الغنى والفقير سواء فاتورة الكهرباء الشهرية ما يعادل 9 دولارات بسبب الدعم الذى تقدمه الدولة للطاقة.
كما ورث ماكرى تركة من الخلاف مع مجموعة الرأسماليين الذين يطالبون الأرجنتين بـ1.5 مليار دولار ما يعوق البلاد عن التمويل الذاتى، فى وقت فرض فيه نظام «كيرشنير» على البلاد لـ12 عاما سياسة مكنت الحكومة من التحكم بالاقتصاد، ففرضت الضرائب العالية على الصادرات الزراعية وتراجعت احتياطات النقد الأجنبى إلى أقل من 26 مليار دولار فيما يأكل الدين العام 6% من الدخل القومى، وزادت نسبة القيود المفروضة للتحكم فى العملة الأجنبية ما جعل القلق ينتاب الشركات والمستثمرين الأجانب فى البلاد، خاصة أن أنصار حزب العدالة الاجتماعية للرئيسة السابقة كريستينا فيرنانديز والذى يمثل اليسار الأغلبية، وقد يعيقون تحرك وخطط الرئيس الجديد الرأسمالى فى البرلمان فيصبح أداؤه كالبطة العرجاء.
فوز ماكرى الليبرالى بفارق 3% فقط عن منافسه اليسارى (سيولى) يوضح الاختلاف العميق فى البلاد، لذلك قد تبدو عواقب التغيير هائلة، فالرئيس الجديد يهدف إلى الاستعانة بوزراء من التكنوقراط، وإنهاء التدابير الحمائية وإلغاء الدعم على الطاقة والسلع الأساسية وإلغاء الضرائب على تصدير الحبوب، ورفع القيود المفروضة على التحكم فى العملة الأجنبية، وتسهيل تحويل البيزو الأرجنتينى للدولار، وهو ما ينطوى على تقليل من قيمة العملة المحلية وتراجع حاد فى قيمة البيزو الأرجنتينى.
فضلا عن ذلك فقد وعد ماكرى بتعزيز المؤسسات ودعم رجال الأعمال وعقد صفقات مع الدائنين وإعادة تشكيل السياسات الخارجية للأرجنتين بعيدا عن فنزويلا وإيران والتقرب من الولايات المتحدة وبريطانيا وتبنى موقف أقل حدة فى الحوار بشأن جزر الفوكلاند مع إسبانيا، وهو ما يبلور رؤية مختلفة كليا عن الرئيسة السابقة كرستينا فيرنانديز كيرشنر التى اعتمدت فى ولايتيها الرئاسيتين على المواجهة، مفتقرة للغة الدبلوماسية والحوار، ما جعلها تلجأ لسحب سفرائها كحل للمشكلات الدولية على غرار ما حدث فى بريطانيا إبريل 2015 وطرد شركات النفط البريطانية وسحب السفير من لندن.
لكن فى المقابل ما قد يبدو فقرا فى السياسات الخارجية وتصادما مع الغرب قد يراه ما نسبته 46% من الشعب الأرجنتينى التى لم تصوت لماكرى وصوتت لمنافسه المنتمى لحزب فيرنانديز الرئيسة السابقة سياسة صائبة، وكلنا نتذكر خطبها النارية ضد الولايات المتحدة الأمريكية فى مقر الأمم المتحدة بنيويورك وقت انعقاد جلسات الدورات العامة السنوية، وهو ما كان يشكل صورة البطلة الأسطورية التى تواجه بشجاعة «الإمبريالية الأمريكية الرأسمالية» فى عيون وقلوب الشعب الأرجنتينى ما جعل لها شعبية عريضة، فضلا عن توجهها بإطلاق يد الدولة فى حماية الشعب وخاصة الفقراء من السياسات الاحتكارية التنافسية لرجال الأعمال ودعم الطاقة والمعاشات، فهل سيقتنع الشعب بسياسات الرئيس الجديد الرأسمالى المؤمن بسياسة السوق الحرة اقتصاديا والموالى لواشنطن ولندن سياسيا؟
على جانب آخر فتحول الأرجنتين من معسكر اليسار الجديد الذى نشأ بعد 2002 تحديدا بعد الأزمة الاقتصادية فى بوينس آيريس وما عرف بالثورة الشعبية الطاحنة أو «انتفاضة الطناجر» ١٩٩٩- ٢٠٠٣ والتى أطاحت بـ٥ رؤساء جمهورية فى مدة قياسية حتى ظهور تيار الأرجنتينى (أرنيستو كيرشنر) اليسارى ومن بعده زوجته كريستينا فيرنانديز، وهوجو تشاڤيز فى فنزويلا، وباشيليه فى تشيلى، وغوتيريس فى الإكوادور، وفاسكويز فى الأوروجواى، وموراليس فى بوليفيا، وأومالا فى البيرو وسانتوس فى كولومبيا ثم صعود نجمهم الأبرز (لولا دا سيلفا) فى البرازيل والذى أدت سياساته الاقتصادية إلى طفرة فى البرازيل يشهد لها العالم، مع بقاء كوبا كاسترو على عقيدتها اليسارية، قد يؤدى لتشكيل تكتل معارض ورفض من تلك الدول ضد سياسات بوينس آيريس الجديدة التى خرجت على يد ماكرى من عباءة اليسار، وسترى تلك الدول الأرجنتين نموذجا يهدد نضال تلك الشعوب ضد محاولات الهيمنة الأمريكية المتواصلة، وهو ما سينعكس على صفقات الأرجنتين التجارية داخل «ميكروسور» منظمة التجارة لدول أمريكا اللاتينية.