يبدو أن صراع القناعات أو حتى الثقافات الذى حكم اختيارات الناس منذ أربع سنوات، جاء ليعبر عن نفسه فى انتخابات مجلس النواب لعام 2015. فعليًا، رفع رحيل مبارك الستار عن التصورات المختلفة للمواطنين خاصة فيما يتعلق بعلاقة الدولة بالمجتمع. وفى أعقاب ثورة يناير، حين حاولت كل فئة إقصاء الأخرى انتصارًا لتصوراتها، عادالقمع كوسيلةوحيدة لحسم الصراع والقضاء على الفوضى.
فبعكس ما تخيل الكثيرون، مصر المتجانسة عرقيًا وإثنيًا ليست على أى حال متشابهة فكريًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا. فقد اندهش الكثيرون مثلا من مقاطعة كتل مجتمعية، وعلى رأسها الشباب للانتخابات، فنعتوهم «بقلة الأدب» وكأن النظام «هو بابا وماما»، كما صعق آخرون من الاختيارات المذهلة وربما البائسة فى بعض الدوائر، حين ذهب الناخبون بكامل إرادتهم لانتخاب بلطجى غير قادر على النطق «بكلمتين على بعض»، أو شخصيات لا إنجاز لها سوى سيرة الناس أو سبها أو الاستقواء عليها. وفى أحيان أخرى، فضل الناخبون بشكل واضح مرشحين ينتمون إلى أجهزة الدولة أو مرشحى الخدمات، ولم يلتفتوا إلا نادرًا إلى المرشحين الأكثر قدرة على أداء رقابى وتشريعى وحتى خدمى مختلف.
الشباب المنتمى إلى الطبقة الوسطى الذى حصل على مستوى تعليمى واقتصادى متميز، والذى سافر بعضه إلى دول غربية حتى ولو للسياحة والتنزه، شعر أن الطريقة التى تدار بها دولته غير لائقة لأن القانون منتهك، والديمقراطية غائبة والكرامة الإنسانية لا مكان لها. فار وثار فى 25 يناير إلا أن شيئا لم يتغير بل تم إقصاؤه عقب إزاحة الإخوان، فقاطع قطاع غير قليل منه انتخابات شعر أنها تأتى فى سياق سياسى لا يعبر عنه أو يرحب به. وفى المقابل، لم يشعر جميع أعضاء المجتمع أصلاً بالحاجة إلى التغيير، فـأحلام الديمقراطية لم تكن أبدًا أولوية لمن يعانى تعب الحصول على قوت يومه، فذهب لاختيار من يلبى له احتياجاته. كما أن دولة القانون أو تعديل إدارة الدولة غير الديمقراطية وغير الكفئة، لم تكن من الأصل هدف الكثيرين من أبناء الطبقة الوسطى خاصة من الجيل الأكبر. فقد سعوا رغم مستوى تعليمهم المرتفع ليس إلى انتخاب من يرفع راية الإصلاح، بل على العكس، من يحافظ على الأوضاع القائمة حتى وإن كانت ظالمة وفاشلة، فالمهم هو الهدوء و«مش مهم الثمن». وفى الوقت الذى امتعض فيه هؤلاء المترفون أو المتعلمون من انتخاب بلطجى هنا أو هناك، اعتبره أبناء الطبقات المطحونة «دكرّا» أو «فتوة» سيأتى لهم بحقوقهم ولو على أنقاض دولة قانون لم يعبأوا بها كثيرًا. فجزء لا بأس به من المجتمع يعيش خارج قيم الحداثة التى تتبناها قطاعات من الطبقة الوسطى، وبالذات شبابها.
وأخيرًا، هذا يعنى أن برلمان 2015 بمن يعبر عنهم ومن لم يهتم بتمثيلهم، هو مجرد انعكاس لأزمة مستمرة معنا منذ أربع سنوات. ومع ذلك فإن الاختلافات سابقة الذكر ليست المشكلة، بل إيجاد صيغة لإدارتها وفقًا لقيم إنسانية مشتركة هى المعضلة. أما فرض صيغة الأمر الواقع هذه فيمكن أن تستمر لسنة أو عشر أو أكثر، لكنها من الصعب أن تستمر دومًا، فهى ببساطة تعبر عن واقع تجانسه مصطنع فحسب.