استشهدت بما يحدث فى الدولة العبرية من توظيف للاختلاف بين الفرقاء السياسيين ــ «عمل – ليكود – أحزاب دينية متشددة» ــ وهو اختلاف يصل لدرجة العداء السافر أحيانا، بأن الجميع يصب ويصطف فى خدمة هدف أسمى هو وجود «إسرائيل» قوية متماسكة متقدمة متفوقة على جميع جيرانها مجتمعين!
.. وكان ذلك فى سياق برنامج تليفزيونى أداره الإعلامى القدير جمال الشاعر، حيث دارت الحلقة حول البرلمان المصرى أو مجلس النواب الجديد، إذ أكدت على ثنائية الاختلاف والاصطفاف!، ثم سألنى الرجل عن نصيحة أوجهها للنواب فقلت من فورى أن يسعى كل منهم لمحو أميته فى المجال الذى يجهله.. والأمية التى عنيتها هى الأمية السياسية والأمية الدينية والأمية الثقافية، وكذلك الأمية النيابية!.. وأظن أن هذا هو مربط الفرس فى مسألة البرلمان!
وأظن أن كثيرا من القراء مازالوا يتذكرون الممثل الكوميدى العبقرى عبدالفتاح القصرى.. الذى سعى لمحو أميته الهجائية وأحضروا له كتابا به صور لحيوانات وأدوات وتحتها كتبوا اسم الحيوان أو الأداة ليربط القصرى بين الحروف وبين الصور، وعندما جاءت الصفحة التى فيها صورة الثعبان.. بادر من فوره وهو مبتسم مبتهج بانتصاره الثقافى ونطق الحروف صائحا: حَنشٌ!! بفتح الحاء وضم الشين وتنوينها!!، وهذا ما أخشاه أن يسعى بعض السادة النواب فيفكون أميتهم على طريقة عبدالفتاح القصرى!
محو الأمية فى تلك المجالات أمر لا بديل عنه، لأننا إذا كنا بصدد تجديد الخطاب الدعوى «الدينى» فإن ذلك قد تستلزمه تشريعات تضع للتجديد أطرا ملزمة لكافة الأطراف فى الوطن، بحيث لا تترك فرصة لعبث أمثال حسان والحوينى وبرهامى ومخيون ومن على شاكلتهم ممن اختزلوا الدين والدعوة فى إرسال اللحى وعدم تهذيبها وفى القمصان القصيرة – لأن الجلباب فى اللغة وفى القرآن للمرأة، أما القميص فهو للرجل كما جاء فى قصة يوسف عليه السلام وامرأة العزيز – التى يبالغ بعضهم فى تقصيرها لتصبح تحت الركبة مباشرة، وعمدوا إلى تناسى النص القرآنى المحكم ليستبدلوا به كلاما لابن تيمية والألبانى ومن شرب مشربهم الذى كانت له ظروف خاصة فى زمانهم!.. ولن يستطيع حضرة النائب المحترم أن يساهم فى وضع التشريع إلا إذا كان يستطيع فهم القضايا المطروحة.
ولنا أن نقيس على ذلك بقية المجالات، وحتى لا يذهب أحد إلى أن هذا الكلام يعنى أن يفهم النائب فى كل شىء وأن يفتى فى كل مجال ويدس أنفه فى أى اتجاه، فإننى أؤكد أن المطلوب هو أمران، الأول: أن يحوز النائب ثقافة عامة تمكنه من الإلمام بأبعاد ما يطرح عليه، والثانى: هو أن يكون للنائب هيئة أو مجموعة أو مصدر، سمه كما شئت، يعاونه بصورة استشارية فى دراسة القضايا المختلفة ويقترح عليه خيارات القرار فيها واتجاهات الرأى العام بشأنها.
وفى سياق ما يثار حول دور المال السياسى واستنكار كثيرين لهذه الظاهرة، فإن واقع الأمر هو أنها ليست جديدة وليست مقصورة على الانتخابات فى مصر!!.. لأننا نجد فى البلاد العريقة فى ديمقراطيتها والتى تمرس مواطنوها فى التعامل مع الانتخابات ظاهرة جماعات الضغط «اللوبى» تلك التى لا تستخدم الأموال فقط فى دعم مرشح بعينه أو حزب بذاته، وإنما تستخدم ما يمكن أن نسميه الابتزاز السياسى، مثلما يفعل اللوبى الصهيونى فى الولايات المتحدة ودول أخرى فى المنظومة الرأسمالية الغربية.. ثم حدث ولا حرج عن احتكارات السلاح واحتكار البترول، وعن دور الإعلام ومن يسيطرون عليه.. وقد كان عندنا فى مصر قبل طغيان «الكاش» النقدى، شكل من أشكال الرشى الانتخابية على هيئة عجول تذبح وتوزع لحومها فى الأعياد والمواسم التى هى لمن نسيها أو لا يعرفها «الرافرفة أى رأس السنة الهجرية، وعاشوراء، ومولد النبى، و27 رجب أى الإسراء، والعيد الصغير والعيد الكبير.. ناهيك عن مناسبات أخرى إقليمية كموالد الأولياء»!!.. ومع اللحوم كانت توزع قطع الأقمشة الرخيصة من الدمور والدبلان والشيت، وهو نوع من القماش الثقيل نسبيا وإليه نسبت عائلة الشيتى المشهورة فى طنطا وكان أهلنا يسمون محل الأقمشة الضخم «بنك بدوى الشيتى»!! وكان الذى يفعل ذلك من كبار الملاك، أو كبار الماليين والعقاريين آنذاك يسمى رجل البر والإحسان.. وينزل هذا اللقب على لافتاته الانتخابية!.. وعلى ذلك فالمال يلعب دوره من أول رشوة اللحم والقماش عندنا، إلى حملات جماعات الضغط فى أعتى الديمقراطيات الغربية!
ثم يتحدثون عن حصول بعض الشخصيات التى عليها ملاحظات نخبوية منتقدة ومستنكرة على أعلى الأصوات فى دوائرها، وكيف أن البرلمان سيصبح بوجود هؤلاء «مسخرة» و«مشتمة»، ولا يفطن أصحاب هذه الملاحظات إلى أن البرلمان الأقرب للاكتمال هو ما يأتى صورة مصغرة من الشعب الذى انتخبه!!.. مثلما هو المولد الذى تجد فيه العابد الصوفى الوقور الجامع بين الحقيقة والشريعة والدرويش متوهج الوجدان الذى يتمايل فى حضرة الذكر بغير كلل ولا ملل ولا تعب، وفيه المعترض على كل ذلك باعتباره بدعة وضلالة، وفيه لاعب الثلاث ورقات، ولاعب الأكروبات فى السيرك البسيط، وصاحب نصبة المدفع اليدوى الذى يقدم أولاد البلد على دفعه لتنفجر «البمبة»، وأحيانا يضعون الأثقال كلها ويركب فوقها صبى ويأتى الشاب أو الرجل «العترة» ليشمر أكمامه ويدفع المدفع بيده أو حتى بإصبعه ليصفق له الجميع.. وفى المولد أيضا الحاوى والساحر وغرزة الكيوف المخدرة.. كل هذا له زبائنه وبغيره لا يصبح المولد مولداً!
وهكذا البرلمان فى ظنى لابد أن تمثل فيه كل أطياف التكوين الشعبى الذى أفرزه، والعبرة كل العبرة فى توظيف هذا الإفراز توظيفا صحيحا، يخدم «الاختلاف والاصطفاف» من أجل إنجاز الأهداف الوطنية التى لن يختلف عليها أهل المسخرة والمشتمة مع أهل الوقار والأدب والعلم والوعى!
وأخيرا يرى البعض من المثقفين المحترمين أن البرلمان المنتخب يغلب عليه رأس المال المتوحش، وهنا أكرر ما سبق وكتبته وقلته، وهو أنه لا مانع ولا حظر على الرأسمالية بشرط أن تكون رأسمالية حقيقية، تعرف دور رأس المال فى مسيرة الأوطان وفى بناء المجتمعات، لا أن يكون الذى تعرفه هو تعظيم ربحها على قاعدة اخطف واهرب.. وفقط.
.. وللحديث صلة.