وفاز توفيق عكاشة بعضوية مجلس النواب بأكبر عدد من الأصوات يحصل عليه مرشح، متغلبا فى جولة الإعادة على سياسى مخضرم، هو فؤاد بدراوى، حفيد فؤاد سراج الدين، الذى كان يوما ما يتملك دائرة نبروه كلها، بما فيها مقعده المضمون فى أى انتخابات أُجريت فى حياته التى امتدت نحو قرن من الزمان.
وأثبت عكاشة بفوزه الساحق أن سخرية الملايين من المرتادين لمواقع التواصل الاجتماعى من شخصه وتسفيههم له واحتقاره أحيانا، لا تعنى بالضرورة أن هذا الشخص قد عدم الشعبية أو فرصة النجاح.
أثبت عكاشة أن مصر التى على الأرض تختلف كثيرا عن مصر التى نتخيلها فى العالم التخيلى، وأن ما يعتقده سكان هذا العالم لا ينطبق بالضرورة على ذاك العالم.
وما أصعب أن أشق صف الإنكار والتعامى عن الحقائق الذى نعيشه على صفحات فيسبوك وتويتر، وما نسير وراءه كالعميان من نظرة بعض أصحاب الصفحات السمينة للأشياء، لكن الحقيقة واجبة، مهما كانت مرارتها، والطبيعى فيها أن تكسر صنما كل حين.
والحقيقة هى أن عكاشة أثبت أنه الواقع ذاته، وأثبت أن خصومه منفصلون عن الواقع، بل فى خصومة مع الواقع، وأنهم يعيشون حالة معاندة يغلب عليها احتقار كل مخالف، واحتقار كل مؤيد لكل مخالف، واحتقار كل مَن يفكر فى تغيير قناعته تجاه أى مخالف.
فكِّر مرة أن تكتب شيئا على هذه الوسائط يتضمن أى احترام لشخص أصدرت آلهة السوشيال ميديا قرارا بإعدام سمعته واغتيال حقوقه المعنوية.. جَرِّب مرة أن تقول شيئا به شبهة القبول لواحد من هؤلاء، وانظر ماذا ترى.. لن تنجو من سيل من الشتائم أو التنكيت والتبكيت على أقل تقدير، وسيعاملك الآخرون معاملة السفيه أو فاقد التمييز أو المتواطئ (بلفظ لا تجوز كتابته فى صحيفة محترمة).
تحولت الضلالات المنفصلة عن الواقع إلى واقع بديل فى هذا العالم التخيلى، وطفحت الضلالات إلى درجة احتقار الواقع ذاته. لقد عمل عكاشة على الأرض لست سنوات على الأقل، وخاض المعركة للمرة الثانية بكل ما أوتى من قوة، ليُذَكِّر جميع مَن تفرغوا لتدبيج النظريات فى دونية هذا الشعب وميله للعبودية وإنكاره لنقاء الدم الثورى، بأنهم لم يقطعوا خطوة جادة واحدة نحو العمل الشعبى الحقيقى منذ أن اعتلوا منابرهم على الصفحات التخيلية.
لم يُنشئ أى منهم حزبا سياسيا قادرا على تسلق السلم السياسى من أسفل إلى أعلى، أو حركة سياسية قادرة على خلق أى تغيير على الأرض، أو حتى مؤسسة خيرية أو اجتماعية قادرة على العمل دون مساندة قصر الاتحادية.
ولم يرشح أى منهم نفسه لمجلس النواب، ولم يدعم أى منهم مرشحين للفوز على المرشحين الذين يحتقرونهم، واكتفى الجميع بالتعليق من بعيد، كأنهم يشاهدون مباراة كرة قدم فى الدورى العام الأسترالى، حيث لا ناقة لهم ولا جمل.
هل لاحظتم كيف أن مجلس النواب الجديد سيضم كل مَن تعرضوا للاحتقار والتسفيه والشتم على السوشيال ميديا؟ هل لاحظتم أنهم لم يسقط منهم واحد؟ بل هل لاحظتم أنهم حصلوا على أعلى الأصوات؟
هنا تناقض حقيقى بين وجهة نظر العالم التخيلى فى الواقع، وبين الواقع ذاته.. هنا خلل واضح فى التقدير وفى اعتبار القيم وتعميمها وفرضها على الجميع والمصادرة على إمكانية مراجعتها فى أى وقت.
والأعمق من هذا التناقض وذاك الخلل هو الانفصام بين العالمين اللذين لم يعد أى منهما صورة للآخر، بل لم يعد بأى منهما ذكر للآخر، ولا معرفة بالآخر، إنما هو الجهل المتبادل، والاحتقار المتبادل، ولا أثر يخرج من هذا العالم إلى ذاك، ولا من ذاك إلى هذا، وقُضى الأمر.
لو كان للسوشيال ميديا أثر خارج العالم التخيلى لفاز فؤاد بدراوى على عكاشة بفارق مليون صوت على الأقل، أو لتأثرت شعبية عكاشة فى دائرته بأى شكل، لكن الواقع العكاشى تفوق بنجاح رقمى فريد، وها هو يتطلع، بعد أن سحق القطب الوفدى العريق، إلى اعتلاء قمة السلطة التشريعية والجلوس على كرسى جلس عليه سعد زغلول والنحاس وعدلى يكن، مع حفظ ألقاب الرفعة والباشوية.