فى كتاب «الوافى بالوفيات» لـ«صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدى»، قصة تستحق القراءة، بطلاها صلاح الدين الأيوبى وزعيم الطائفة الإسماعيلية، سنان بن سلمان البصرى، وراويها سفير صلاح الدين الأيوبى، المنتجب بن دفتر خوان. يقول المنتجب: «أرسلنى صلاح الدين الأيوبى إلى سنان، زعيم الإسماعيلية، حين وثبوا على صلاح الدين بدمشق ليقتلوه- (محاولة اغتيال فاشلة)- ومعى القطب النيسابورى، وكان سنان عظيم الكيد ذا قدرة على الإغواء وخديعة القلوب والعقول (لا يختلف كثيرا عن شيوخ الفتنة وأمراء الحروب الطائفية)، وبنى بالشام حصوناً لطائفته احتال فى تحصينها وتوعير مسالكها (تشبه إلى حد كبير مدناً احتلتها تنظيمات التكفير، وتجمعات سيطرت عليها جماعات العنف)، وأرسل معنا تخويفا وتهديدا، فلم يجبه، بل كتب على كتاب صلاح الدين: هذا جوابكم:
جاء الغراب إلى البازى يهدده وكشرت لأسود الغاب أضبعه
أضحى يسد فم الأفعى بإصبعه يكفيه ماذا تلاقى منه إصبعه
ثم قال لنا: إن صاحبكم- يقصد صلاح الدين الأيوبى- يحكم على ظواهر جنده، وأنا أحكم على بواطن جندى، ودليله ما تشاهد الآن، ثم دعا بعشرة من صبيان القاعة، وكان على حصنه المنيف، فاستخرج سكيناً وألقاها إلى الخندق، وقال: مَن أراد هذه فليلق نفسه خلفها!
فتبادروا خلفها وثباً أجمعين، فهلكوا، فعدنا إلى صلاح الدين وعرَّفناه الحال- ويواصل المنتجب روايته- فيقول: ثم إن (سنانا) سَيَّر بعد ذلك رسولاً إلى صلاح الدين، وأمره أن يؤدى رسالته خلوة، ففتشه صلاح الدين، فلم يجد معه ما يخافه، فأخلى المجلس إلا نفرا يسيرا، فامتنع من أداء الرسالة حتى يخرجوا، فأخرجهم كلهم سوى مملوكين، وقال: هات رسالتك، فقال الرسول: أُمرت ألا أقولها إلا فى خلوة، فردّ صلاح الدين: هذان ما يخرجان، لأنهما مثل أولادى، فإن أردت أن تذكر رسالتك وإلا قُم! فالتفت الرسول إلى المملوكين وقال لهما: إذا أمرتكما عن سنان بقتل هذا السلطان فهل تقتلانه؟ فقالا: نعم! وجذبا سيفيهما، فبُهت السلطان صلاح الدين. وخرج الرسول وأخذ المملوكين معه».
ولأننا لا نستدعى قصص الماضى إلا لاستخلاص الدروس والوقوف على تجارب السابقين، فإن هناك إشارات مهمة تنطوى عليها تلك القصة، أولاها ترتبط بزعيم الطائفة الإسماعيلية سنان وقدرته على الإغواء والتأثير، فعلى الرغم من فساد فكرته واعوجاج منهجه- حيث أحل الإفطار لأتباعه فى رمضان، وزواج الحرمات- فإنه تمكن من إقناع مريديه حتى ملكهم، وفى هذا دليل على أن كثرة الحشود حول فكرة بعينها لا تعنى صلاحها، وأن شيوخ الفتنة، وإن نجحوا فى تغييب عقول البعض، فهذا ليس دليلا على استقامة أفكارهم.
وأما الإشارة الثانية فتتعلق بمحاولة الاغتيال الفاشلة للسلطان صلاح الدين، وهى دليل على أن تلك الجماعات حين تقوى ويشتد عودها تذهب مباشرة نحو رأس السلطة الذى يصبح هدفا لغدرها وخستها.
وهنا نصل للإشارة الثالثة، وبطلها صلاح الدين الأيوبى نفسه، فعلى الرغم من قدرات الرجل وحنكته السياسية، وعلى الرغم أيضاً من كفاءته العسكرية، فإنه خُدع فيمَن كان يظنهم مثل أولاده، وفى هذا دليل على أن حكم الفرد، وإن كان فى مثل قدرات صلاح الدين، فهو فى حاجة لفريق عمل بلغة العصر، حتى لا يتحمل بمفرده أعباء الحكم، وهذا يقودنا للإشارة الرابعة، وهى تلك المتعلقة بالتشكيلة المعاونة للحاكم وكيف يتم اختيارها واعتماد مبدأ أهل الثقة فى الاختيار، وهو مبدأ، وإن كان ضروريا فى بعض المواقف والمواضع، إلا أنه لا يجب أن يكون المعيار الوحيد، خاصة فى ظل اتساع دائرة الحكم، وتعدد المهام، وتزايد التحديات، فقواعد الكفاءة والقدرة على العطاء والبذل يجب أن تكون هى الحاكمة، ويجب أن تكون المعايير واضحة ومعلومة للعامة، وفى هذا حماية للحاكم من الوقوع فى خطأ الاختيار، وحماية للأمة من أن تسقط فى فخاخ الأعداء، الذين قد يظهرون وكأنهم «مثل أولادى»، وفى الحقيقة هم معاول هدم للأوطان.
وإن كانت القصة التاريخية تنطوى على مثل هذه الإشارات، فإن تطور آليات الحكم وظهور الدول ونظم الحكم الحديثة يؤكد أن:
«رأى الجماعة لا تشقى البلاد به
ورأى الفرد يُشقيها»
وبما أننا فرغنا للتو من انتخابات برلمانية أفرزت برلمانا يخشى كثيرون ألا يشهد تكتلات معارضة قوية، فإن التذكرة واجبة بأن الدولة التى تسعى لتحجز لنفسها مكاناً تحت الشمس لا يمكن أن يكون برلمانها من الموافقين أبدا والمؤيدين على طول الخط، ولا يجب أن يسود مبدأ أهل الثقة فى هذه المواضع، لأن رأى الجماعة لا تشقى البلاد به.