وإن عجب فعجب قول يتباهى به بعض أعضاء البرلمان الجديد ممن زلفوا خلسة إلى مقاعده من ممثلى الكتل البرلمانية المخلقة والمهجنة؛ قولهم إنهم نجحوا فى تكوين ائتلاف كبير داعم للدولة داخل البرلمان. كلنا ندعم الدولة ولا أحد من المصريين يدعم اللادولة أو يدعو إلى العودة بمصر إلى ما قبل عام 3200 ق م أى قبل أن يوحد مينا القطرين الشمالى والجنوبى. ولكن السؤال: أى دولة سيدعمها هذا الائتلاف الذى اصطنعه أهل الحل والعقد المستجدون فى زماننا: هل هى دولة الحرية أم دولة الاستبداد؟ دولة المؤسسات أم دولة حكم الفرد؟ دولة العدالة أم دولة الظلم؟ هل هى دولة المهادنة مع الفساد أم دولة محاربة الفساد؟ هل هى الدولة التى ترعى مصالح الأثرياء ورجال الأعمال أم الدولة المنحازة للفقراء والمعدمين؟ والتاريخ ينبئنا أن المطابقة بين كيان الدولة الذى يجب أن يحرص عليه كل المواطنين وبين نظام الحكم الذى تختلف فيه التقديرات؛ هذه المطابقة عرفتها الشعوب عندما خضعت لنظم استبدادية فاشية سحقت شعوبها تحت أقدامها مثل نظم ستالين وموسولينى وهتلر حينما كان أمن الوطن كما يراه الحاكم هو محل الاعتبار الأول والأخير مع المطابقة بين سياسات الحكم وأمن الوطن. وهى بالمناسبة مطابقة لا تختلف فى النوع عن نفس المطابقة التى يروج لها دعاة الدولة الدينية بين ثوابت الدين ومتغيراته.
إن الذين يزعمون أنهم يشكلون تحالفا (لدعم نظام الحكم) يتخلون عن الوظيفة الحقيقية للمجالس التشريعية ويحولونها إلى أجهزة ممجوجة للدعاية والإعلام، فالبرلمانات لم تنشأ تاريخيا لحماية السلطة التنفيذية وإنما لتقوم بوظيفتين: الرقابة على السلطة ووضع التشريعات الضابطة لها. وهؤلاء البرلمانيون الجدد ينأون بأنفسهم عن وزر الرقابة ويتركون أمر التشريع للحكومة صاحبة الأمر والنهى.
هناك مهام دستورية كثيرة تنتظر برلمان مصر ومن أهمها صياغة التشريعات التى تطلبها الدستور: كتشريعات الإعلام، ومكافحة التمييز، والعدالة الانتقالية (هل ما زلنا نذكرها) وغيرها، ولكن التحدى الأول والأكبر الذى سيواجهه برلمان الصوت الواحد والاصطفاف الوطنى هو الموقف من التشريعات التى صدرت بالمئات فى عهد الرئيسين المؤقت والمنتخب وأغلبها تشريعات غير دستورية من وجهة نظرنا. قد أكون مخطئا فى قولى بعدم دستورية كثير من التشريعات التى صدرت فى المرحلة الانتقالية، فقولى قد يكون خطأ يحتمل الصواب وقول غيرى قد يكون صوابا يحتمل الخطأ. ولكن قضيتى ليست مع خطأ آرائى أو صوابها ولكن مع من يرتجفون عن قول ما يعتقدونه حقا للحاكم، ومع فقهاء القانون والسياسة الذين اعتادوا وبدون تردد بيع ضمائرهم بأن يقولوا للحاكم ما يريد أن يسمعه لا ما يجب أن يسمعه طمعا فى ذهبه أو خوفا من عصاه. وأذكر إبان حكم الإخوان أن تندر على وسخر منى على الهواء الدكتور محمد البلتاجى (وهو ليس بقانونى) لأنى وقعت على صحيفة دعوى بطلان الجمعية التأسيسية الأولى، متحسرا على تردى المعلومات القانونية لرجال القانون مثلى. ثم صدر بعد أسبوع واحد الحكم ببطلان الجمعية التأسيسية، وهو نفس ما كان يردده فى حقى على الهواء قانونيو الإخوان وسياسيوهم أمثال صبحى صالح وأحمد أبوبركة وعصام العريان وفى ركابهم بعض أساتذة الجامعة الذين باعوا قدرتهم على الحديث المنمق لخدمة الفاشية الدينية.
واليوم نستمع إلى رجال قانون يقولون لنا إنه لا لزوم لعرض القوانين التى صدرت فى المرحلة الانتقالية على مجلس النواب بحجة أنها صدرت فى مرحلة انتقالية، رغم أن الدستور فى أحكامه الانتقالية لم ترد به كلمة واحدة عن استثناء هذه القوانين من العرض على البرلمان. وثمة حجة أخرى يلوكها من دخلوا البرلمان (لدعم الدولة وضمان استقرارها) وهى أنهم سيمررون بتحالفهم الكبير هذه القوانين فى جلسة واحدة وفى صفقة واحدة حفاظا على استقرار الوطن. إنهم بهذا يهددون تهديدا حقيقيا استقرار الوطن لأن الموافقة على هذه التشريعات دون مناقشة مخالفة لصريح نص الدستور. ولو صدر لاحقا حكم أو احكام بعدم دستورية هذه التشريعات فستهتز اهتزاز الزلازل بنيتنا التشريعية تحت أقدامنا.
دعونا نقرأ سويا المادة 156 من الدستور التى تقرر ما يلى: «إذا حدث فى غير أدوار انعقاد مجلس النواب ما يوجب الإسراع فى اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير، يدعو رئيس الجمهورية المجلس لانعقاد طارئ لعرض الأمر عليه. فإذا كان مجلس النواب غير قائم (الفاء فى كلمة فإذا تفيد العطف على ما قبلها) يجوز لرئيس الجمهورية إصدار قرارات بقوانين، على أن يتم عرضها ومناقشتها والموافقة عليها خلال خمسة عشر يوما من انعقاد المجلس الجديد، فإذا لم تعرض وتناقش أو إذا عرضت ولم يقرها المجلس زال بأثر رجعى ما لها من قوة القانون دون حاجة إلى إصدار قرار بذلك، إلا إذا رأى المجلس اعتماد نفاذها فى الفترة السابقة أو تسوية ما ترتب عليها من آثار».
هذه المادة تفرق بين حالتين: حالة ما إذا كان المجلس قائما ولكن فى غير أدوار الانعقاد، وحالة ما إذا كان المجلس غير قائم. ونحن بطبيعة الحال أمام الحالة الثانية. ثم إن هذه المادة رهنت سلطة رئيس الجمهورية فى اتخاذ تدابير عاجلة (ومنها التشريعية) فى الحالتين أن يوجد عنصر السرعة التى لا تحتمل التأخير. وهذه القوانين الأخيرة التى لا تحتمل التأخير فى رأينا تنحصر فى نوعين من القوانين: قوانين ترتيبات المرحلة الانتقالية كقوانين الانتخابات وتقسيم الدوائر، وقوانين مكافحة الإرهاب بضوابطها الدستورية. وثمة العديد من أحكام المحكمة الدستورية بعدم دستورية القوانين التى أصدرها الرئيس السادات لغير ما ضرورة من عجلة. وقد أصدر الرئيسان المؤقت والمنتخب مئات من القوانين.. هى من الاختصاص الحصرى للبرلمان كقوانين التأمينات والضرائب والمعاشات والجامعات والمحكمة الدستورية والإجراءات الجنائية والعقوبات وغيرها الكثير وهى قولا واحدا مصيرها إلى الحكم بعدم الدستورية إذا طعن عليها حتى ولو وافق عليها البرلمان.
وهناك مجموعة أخرى من القوانين صدرت فى عهد الرئيسين غير دستورية فيما تضمنته من مواد: كقانون التظاهر الذى أحاله مجلس الدولة للمحكمة الدستورية، وقانون عدم جواز الطعن على عقود الدولة إلا من أطرافها، وقانون إطلاق مدد الحبس الاحتياطى فى حالات معينة، وقانون اعتبار كل المنشآت الحكومية مؤسسات عسكرية يخضع الاعتداء عليها لاختصاص القضاء العسكرى، وقانون تسليم المتهمين أو المحكوم عليهم الأجانب إلى دولهم خارج سلطة الرئيس فى العفو، وهذه كلها وغيرها يعلم مشرعوها أنها قوانين غير دستورية ولا يصحح عوارها موافقة برلمان الاصطفاف عليها.
تبقى المسالة الأخيرة وهى أم المسائل: ماذا لو تمت الموافقة على كل هذه التشريعات فى جلسة واحدة أو اكثر دون مناقشة كما يصرح بذلك أنصار الاصطفاف الوطنى؟ بمراجعة المادة 156 من الدستور نجد أن هذه المادة تعتبر هذه القوانين لاغية فى حالة من حالات ثلاث: عدم عرضها أو مناقشتها أو الموافقة عليها. أى أن هذه المادة اشترطت ثلاثة أمور: العرض، والمناقشة، والموافقة. وأن يتم ذلك كله خلال خمسة عشر يوما من انعقاد المجلس. فإذا عرضتم ووفق عليها دون مناقشة فمصيرها عدم الدستورية. ومن هذه القوانين قوانين مكملة للدستور كقانون انتخاب الرئاسة ومجلس النواب ومباشرة الحقوق السياسية وهى قوانين تحتاج أغلبية ثلثى أعضاء المجلس للموافقة عليها وإلا زال ما كان لها من أثر. أما كيف يتم هذا فى تلك المدة القصيرة، فهذا سؤال لا يعنى الدستور فى شىء ويسأل عنه الجهاز التشريعى الذى أحاط بالرئيسين. ويمكن تجاوز صعوبته عمليا عن طريق توزيع هذه القوانين على لجان تعمل ليل نهار حتى تنتهى من عملها فى المدة المحددة.
الأمر إذن خطير لا تنفع فيه التصريحات غير المسؤولة عن التحالف الداعم للدولة. فالدولة التى يجب أن ندعمها هى دولة القانون والدستور الذى أراده الشعب وأقسم الجميع على احترامه.