صدر هذا الشهر عن أحد مراكز الأبحاث الأمريكية الشهيرة والمؤثرة – تقريرا عن السياسة الأمريكية تجاه مصر. التقرير تضمن عددا من التوصيات لتطوير هذه السياسة. ولكن شدنى فى التقرير عبارة جاءت على لسان مسؤول أمريكى، لم يذكر اسمه، جاء فيها (أن مصر فى حالة فوضى وعلينا أن نحافظ عليها «طافية» afloat من أجل مصالحنا). العبارة قاسية ولكنها صريحة فيما يتعلق بالأهداف والمصالح الأمريكية تجاه مصر. البعض قد يرى أن هذا الهدف يرتبط فقط بالظروف الوقتية التى تمر بها مصر الآن. ولكن التحليل المعمق للعلاقات الأمريكية المصرية خلال العقود الأربعة الماضية يقود لنتيجة مشابهة وهى أن محصلة هذه العلاقة كان الحفاظ على السفينة المصرية «طافية» أى لا تغرق، ولكن لم يؤد أو يستهدف أن «تتقدم» هذه السفينة للأمام بشكل ملحوظ.
فى نفس توقيت صدور التقرير الأمريكى، زار مصر مسؤول فيتنامى كبير، وجاء لكلية الاقتصاد بجامعة القاهرة، وتحدث عن تجربة بلاده الناجحة فى التنمية الاقتصادية (معدلات نمو بلغت 6% سنويا، وصادرات تبلغ 150 مليار دولار). ملاحظة أساسية من التجربة الفيتنامية هى أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت شريكا أساسيا فى نجاح هذه التجربة. فعلى الرغم من الحرب التى دارت بينهما وراح ضحيتها أكثر من 50 ألف أمريكى، فقد تم استئناف العلاقات بين البلدين فى التسعينيات، وفى عام 2001 تم توقيع اتفاق للتبادل التجارى بينهما ساهم فى تشجيع تبنى فيتنام لسياسات اقتصادية تقوم على آليات السوق والاندماج فى الاقتصاد العالمى، وفى عام 2013 وقع الرئيس أوباما ونظيره الفيتنامى اتفاقية شراكة شاملة نقلت العلاقات الاقتصادية بين البلدين لمرحلة جديدة، ومنذ شهر توصلت الولايات المتحدة لاتفاق «مبادرة الشراكة التجارية عبر المحيط الهادى TPP» والذى يستهدف إقامة منطقة تجارة حرة تضم الولايات المتحدة وفيتنام وعشر دول أخرى على جانبى المحيط الهادى.
باختصار، فإن الولايات المتحدة ساعدت بشكل كبير على نجاح التجربة الاقتصادية فى فيتنام، وساندت عملية التحول والإصلاح الاقتصادى بها من خلال ضمان نفاذ السلع الفيتنامية للأسواق الأمريكية ومساندة حركة التصنيع بها. ولم تضع الولايات المتحدة مشروطية سياسية لتطوير علاقتها الاقتصادية بفيتنام على الرغم من أن الأخيرة مازال يحكمها الحزب الشيوعى. والمحصلة أن الولايات المتحدة أصبحت أكبر سوق لصادرات فيتنام.
لماذا تحركت السفينة الفيتنامية ولاتزال السفينة المصرية طافية فى مكانها؟
هناك بالتأكيد أسباب تتعلق بالبيئة الإقليمية لمصر، وتخوف بعض الدول خارج الإقليم وداخله من ظهور قوة عربية يخل صعودها بتوازن القوى مع إسرائيل، أو يؤثر على مصالح الغرب بالمنطقة.
هناك أيضا السبب المرتبط بعلاقتنا بالقوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة، والتى ركزت بشكل أساسى على الجوانب الاستراتيجية والأمنية. وعلينا أن نتبنى «تحولا هيكليا» فى مستقبل علاقتنا مع الولايات المتحدة، علينا أن نخرج من أسر الإطار الذى رسخته اتفاقيات كامب ديفيد والذى ركز بشكل أساسى على التعاون الاستراتيجى والأمنى وضمان حد أدنى من الاستقرار بمصر لضمان المصالح الأمريكية بالمنطقة. علينا الآن تبنى توجه جديد لهذه العلاقة، وفتح آفاق جديدة لها، تساهم بشكل أساسى فى تحقيق «النمو الاقتصادى»، وهو القضية الأهم فى مصر اليوم، وذلك بإعادة النظر فى حجم وطبيعة المعونة الاقتصادية، وفتح الأسواق الأمريكية للمنتجات المصرية بشكل أكبر، وزيادة التعاون فى مجالات التصنيع والتنمية البشرية ونقل التكنولوجيا. استمرار حالة السفينة «الطافية» ارتبط أيضا بأمور من صنع أنفسنا. فبالمقارنة بفيتنام مثلا، لم نأخذ موضوع الإصلاح الاقتصادى مأخذ الجد، ولم نتبن توافقا حول التوجه الاقتصادى للبلاد ودور الدولة والقطاع الخاص والاستثمار الأجنبى، وهى شروط ضرورية للنمو الاقتصادى.
لقد ظلت السفينة المصرية - ولسنوات طويلة – أسيرة لمعطيات وأفكار جعلتها مجرد «طافية» على السطح، وحان الوقت لأن تتحرر من هذه القيود وأن تتحرك للأمام.