يشبهه قراء تونسيون ومصريون بأنه نجيب محفوظ تونس، أكاديمي، رصيده رواية واحدة ولكنها حصدت جوائز عديدة.. إنه الأديب التونسي شكري المبخوت، الذي حصل على جائزة البوكر لهذا العام.
ويرفض المبخوت تشبيهه بالأديب العالمي نجيب محفوظ ويعتبر ذلك «لا يجوز»، معربا على تمنيه أن يكتب نصف ما كتبه الأديب المصري الراحل.
وفي حوار خاص مع «المصري اليوم» اعتبر المبخوت أن الرواية المصرية عمود السرد العربي، متحدثا عن روايته «الطلياني» الوحيدة، التي أثمرت لصاحبها عن 4 جوائز إحداها عالمية، خلال نحو شهرين، في حين تركز نشاط صاحبها في الجانب الأكاديمي.
و«الطلياني» رواية الأسئلة الحارقة، كما يقول المبخوت، مضيفا يزعجني اختزالها في تاريخ اليسار، وفيما يتعلق بانتقاد الإسلاميين لها قال «لا يعنيني» معتبرا أن حديثهم عن «الانحلال» يكشف اغتراب مزدوج عن الذات والجسد وعن التراث والدين.
في حديثه الخاص لـ«المصري اليوم»، تطرق المبخوت إلى هذه الأسئلة وإلى عدّة مواضيع أخرى.. إلى نساء عبدالناصر الطلياني وإلى خيبات متكررة متواصلة لأجيال متعاقبة.
وإلى نص الحوار ::::
هل يمكن وصف الطلياني بأنّها محاولة لتأريخ تجربة اليسار التونسيّ؟
لم يكن التاريخ مقصدا في الرواية لكن الخيارات الكبرى في تتبع ملامح الشخصيات ذات الانتماء اليساري هو الذي فرض بناء العالم السردي بكثير من الإحداثيات التاريخيّة والثقافيّة حتّى تنغرس هذه الشخصيات في السياق الواقعيّ التاريخيّ. ليس من باب الصدفة أن نجد ذلك لأنّ هذه الرواية هي رواية سيرة ولا يمكن فصلها عن تاريخ جيل كامل، من هذه الناحية يمكن اعتبار أنّ عبدالناصر الطلياني هو أنموذج لهذا اليسار الطلابي في تحوّلاته من عالم مغلق هو عالم الجامعة إلى عالم الحقيقة بكل مفارقاته ونزعاته .و لكن ما يزعجني في هذا هو اختزال الرواية في تاريخ اليسار لانّ فيها مواطن قوّة أخرى أكثر من هذا البعد التاريخي الذي لا أنكره ولكنّني لا أحب اختزال الرواية فيه.
انتقدت الرواية بشكل لاذع اليسار والمثقف، لماذا هذا الاختيار «القاسي»؟
هل نجد في الواقع قسوة أقلّ مما نجده في الرواية ،هي لا تريد أن تكون كاذبة ولا تريد أيضا تصوير بطولات زائفة ولا خلق أمثلة ايجابيّة غير موجودة في الواقع. هي فقط محاولة للنظر إلى هذا اليسار في وضعيات واقعيّة مختلفة بأحلامه الجامحة وخيباته الموجعة، وهذا هو واقع المثقف واليسار مع العلم انه لا يوجد صنف واحد لليسار في الطلياني. وما يراه البعض نقدا لاذعا لليسار هو في الحقيقة نقد للسياقات التي تحرّك فيها اليسار ولبعض الأفكار المنغلقة والتصوّرات الزائفة التي اقتات منها هذا التيّار لتعيد طرح عدّة أسئلة كان لا بدّ من طرحها فالرواية هي رواية أسئلة لليسار ولغير اليسار وإن ركزت على مسيرة طالب يساري.
هذا النقد الذي لا أنفيه هو في الحقيقة أسئلة عن خيبة التيّار أوجهها إليه كما يوجهها كل قارئ فلا يمكن لروائي أن يكتب روايته لفئة واحدة.
الطلياني هي رواية لكلّ الناس وليست رواية اليسار فقط والأسئلة الموجهة لليسار هي أسئلة توجه للإنسان في طريق بحثه عن للحرية الفرديّة ،فجلّ الشخصيات تبحث عن حريّتها وبناء كيانها الذاتيّ.
لم تختلف صورة اليسار في الرواية عن صورة اليمين، هل يرجع ذلك إلى موقف الكاتب ممّا نعيشه اليوم؟
هو تعبير عن تصوّر للفكر المنغلق، لا ننسى أنّ زينة (أحد أبطال الرواية)، التي تعبّر عن هذا التوجه هي فيلسوفة والفكر الفلسفي هو بالضرورة نقد لا ينتمي إلاّ للحقيقة فزينة في الأصل طالبة يساريّة ولكنّ انتماءها للحقيقة كان اقوي من تلك الكتب اليساريّة فهي مطلّعة على الماركسية «اللينينية الأرثوذكسية» وتعرف ما قيل فيها من نقد من خلال أسماء الأعلام الكبار.
النقد إذا مارسناه بنزاهة فانّه سيشمل الجميع وليس الإسلاميين فقط لوضوح عجزهم عن ابتكار تصوّرات ورؤى مطابقة للواقع لأنهم يستعيدون نصّا هم عاجزون عن الاجتهاد وإعمال العقل فيه ولكن علينا أن لا ننسى أنّ من التيارات الماركسية من نقد العقلانية نفسها .
تعود أحداث الرواية إلى فترة الثمانينات من القرن الماضي، هل كان التشابه الكبير بين ما حدث وقتها وما نعيشه دافعا لكتابتها؟
نعم هو من الدوافع، لكن الأهم من ذلك هو التشابه بين المرحلتين فالرواية تروي فترة الانتقال من الحكم البورقيبي (الحبيب بورقيبة الرئيس التونسي الراحل حكم من يوليو 1957 إلى نوفمبر 1987) إلى الحكم النوفمبري (في إشارة لنظام زين العابدين بن لي حكم من نوفمبر 1987 وحتى يناير 2011) ونحن نعيش اليوم فترة الانتقال من الحكم النوفمبري إلى ما بعد 14 يناير وكلاهما فترة تحولات صعبة محفوفة بالمخاوف والمخاطر والاضطرابات إضافة إلى أن الفاعلين الإيديولوجيين هم نفسهم. لقد اكتشفت وأنا اكتب الرواية هذا التشابه واكتشفت أيضا أنّ تاريخ تونس ليس بالانقطاعات التي نتوهمها فهو ذو حركة«لولبية»تستعيد من القديم لتتقدم إلى الأمام.
كيف كانت ردّة فعل الإسلاميين؟
لا يعنيني ذلك ،هم قرّاء كغيرهم ومن الطبيعي أن يردّوا الفعل لكن ما يزعجني هو التركيز بطريقة مبالغ فيها عمّا سمّاه البعض بالانحلال الأخلاقي وهذا موقف لا يدخل في باب النقد الأدبي وإنّما هو موقف نابع عن علاقة المغترب بجسده حين يعبّر عنه فكريّا. بعض من كتب منهم وهم قلّة كتبوا أنّ الرواية تقدّم صورة منحلّة لليسار وأنا لست مسؤولا عن عدم فهمهم لعمق الدوافع في الحياة القائمة على جدليّة البقاء والموت.
لماذا برأيكم وجهت انتقاداتهم لنساء الطلياني ؟
دائما هناك مشكل للإسلاميين مع المرأة ويعتقدون أنّ حديث العفّة والشرف هو المناسب لتقديم مثال أعلى لها وهذا لم ولن يتحقق عبر التاريخ فالإسلام في تصوراته وفي ممارساته التاريخيّة وحتّى جوانبه الفقهّية هو الدين الوحيد الذي يتيح للمرآة مجالات واسعة للمتعة بل ويعترف لها بحقّها في ذلك.و مشكلة الإسلاميين أنّهم لا يعرفون هذا التراث ولا يفقهون ما قدّمه المسلمون في مجال فهم الجسد لذلك لديهم وضعية اغتراب مزدوج عن الذات والجسد وعن التراث والدين .
وما لم يقم العرب والمسلمون بمراجعة حقيقية للجسد والمتخيل عنه فإنهم سيظلون خارج التاريخ لأنّ أشكال فلسفة الجسد اليوم بعيدة بأحقاب عن تلك التصورات ثم إن هذه المواقف تعبر فعلا عن النفاق الحقيقي الذين نعيشه.
ما ردكم على الانتقادات العديدة التي وجّهت للرواية وقلّلت من جدارتها في الفوز بالجائزة؟
أظنّ أن للقارئ حريّة تقييم الرواية ولكن بالنسبة للمقالات الجدية التي كتبت عن الطلياني لم أجد شيئا من هذا القبيل وإذا ما تابعنا ما نشر على المواقع الاجتماعيّة فإننا نجد الرأي ونقيضه وهذا لا ينقص من قيمة الرواية .
لماذا فازت الطلياني بجائزة البوكر؟
قدّم الأمين العام للجائزة الأسباب التي جعلت اللجنة تقرر تتويج الطلياني لكنّ الثابت أنّ ما يسمى بالعوامل الجغرافية ليس له دور في قرارها.
بعيدا عن الجوائز لماذا أثارت «الطلياني» كل هذا الجدل؟
وجد القارئ في هذه الرواية بعض الأسئلة التي كثيرا ما يطرحها على نفسه، لقد شعر بأنّ ثمة جانب من التعرف على ذاته في الطلياني وربما هذا ما جعل منها ظاهرة اجتماعية.
لماذا قمت بتنزيل نسخة الكترونية للرواية على الإنترنت في حين أنّها لا تزال في أوجّ نجاحها؟
عندما فكرت في القيام بذلك كنت أدر ك أن الخطوة لن تؤثر على مبيعات الرواية لانّ للورقي سحره ولانّ من سيشرع في قراءتها على الإنترنت سيذهب لشرائها كما أنّ السرقة الحقيقية بالنسبة لي وهو ما يزعجني حقا ،هي ما يحدث في بعض الدول العربيّة وخاصّة في مصر من عمليات استنساخ للكتاب وتسويقه بطريقة غير قانونيّة بأسعار بخسة وهو ما من شأنه أن يضر بحركة النشر في العالم العربي.
هل يمكن القول بانّ الطلياني صنعت المبخوت الروائي أم أنها كشفت عنه؟
المبخوت الروائي هو من صنع الطلياني.
عادة ما يقال الناقد ليس روائيا ناجحا، هل نجاحكم كسر هذه القاعدة؟
هذه أحكام جاهزة ومغلوطة في عالمنا العربي وكتابة الرواية لا تقوم على قواعد مضبوطة.
لمن تقرؤون في مصر؟
لي اطلاع كبير على ما يكتبه الروائيون المصريون واعتبر الرواية المصريّة من أعمدة منظومة السرد العربيّ لكن لي انجذاب خاصّ لنجيب محفوظ الذي له سرّ فاتن يجعلك لا تستطيع أن تلقي جانبا بأي من رواياته.
ما تعليقك على من شبّهك به؟
هذا شرف كبير لي، ربّما الجانب المهم هو ما عّبر عنه بعض النقّاد حين أكدوا أن الطلياني كانت رواية الهوية التونسيّة مثلما كانت روايات محفوظ روايات الهويّة المصرّية، لكن أعتقد أنّ المقارنة لا تجوز فمدوّنتي لا تحمل سوى عمل يتيم وأتمنى أن أكتب نصف ما كتبه .
أي دور للمثقف العربيّ اليوم في التصدي للحركات الرجعيّة التي تستهدف مجتمعاتنا العربية؟
عليه أن يواصل نقد كل شيء وأن لا يقع في التعامل الإعلامي السطحي مع هذه الظواهر لأنّ الإعلام يبحث عن السبق والإثارة ومشكلة المثقف العربيّ أن الإعلام يبتلعه في حين أن الفعل الثقافي هو فعل يحتاج لحرقة الأسئلة وللتأمل ليرى الجوهري وراءه ولتمارس سلطة النقد من خلال اتخاذ مسافة عما يحدث.