«الصحافة في جوهرها تشتغل بالسياسة، والسياسة من ناحيتها تمارس الصحافة، والمعنى هنا أن الصحفيين سياسيون بالضرورة، والسياسيون صحفيون بحكم العمل».. هذه العبارة بعض مما ورد في مقدمة آخر كتب الكاتب الصحفي الكبير صلاح الدين حافظ، تحريم السياسة وتجريم الصحافة، والذي انتقد فيه ظاهرة غياب الحريات في مصر.
ومن كتب صلاح الدين حافظ الأخري «عرب بلا غضب» و«تهافت السلام» و«تزييف الوعى» و«أحزان حرية الصحافة» و«الديمقراطية والثورة مأزق العالم الثالث» هذه بعض عناوين مؤلفات الكاتب والأمين العام الأسبق لاتحاد الصحفيين العرب، صلاح الدين حافظ، والتي تبلغ ١٥ كتابًا وهو مولود بقرية العقلية مركز العدوة بمحافظة المنيا بمصر عام ١٩٣٨.
درس صلاح الدين حافظ بكلية الآداب بجامعة القاهرة وتخرج في قسم الصحافة في ١٩٦٠، وبدأ عمله بمؤسستى الأخبار والتعاون إلى أن انتقل للعمل في الأهرام في ١٩٦٥، وصار مديرًا لتحريرها ومشرفًا على «الأهرام الدولى» كما شغل موقع رئاسة التحرير بمجلة «دراسات إعلامية».
وقد شغل صلاح الدين حافظ موقع الأمين العام لنقابة الصحفيين المصريين في الفترة من ١٩٦٨إلى ١٩٧١ ثم من ١٩٧٣إلى ١٩٧٧ أما موقع الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب فقد شغله في ١٩٧٦ لعام واحد ثم تولاه مجددا بعد انتقال الاتحاد من بغداد للقاهرة في ١٩٩٦ حتى وفاته«زي النهاردة» في ١٦ نوفمبر ٢٠٠٨.
وقد ساهم حافظ في تسعينيات القرن الماضى بتأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وكان قد حصل على الجائزة التقديرية للصحافة من نقابة الصحفيين المصرية، وفي كتاباته ظل مدافعًا عن المهمشين والحريات العامة والعدالة الاجتماعية.
ويقول الكاتب الصحفي ونقيب الصحفيين، يحيي قلاش، عن صلاح الدين حافظ: كان يكفي أن تراه في أي مكان حتى تشعر بالاطمئنان، أو أن تقرأ له رأيا حتى تشعر بالاحترام، أو أن تستمع إليه في أي مناقشة فلا يخالجك أدنى شك في مصداقيته، أو أن تختلف معه فلا تجد أي مرارة في النفس أو طعنة في الظهر، نعم هو صلاح الدين حافظ وكفى لقد كان بالنسبة لجيلي عنوانا للثقة ونموذجا للحالمين بمستقبل أفضل لأوطانهم، وقدوة للساعين لتجسيد الأحلام إلى أفكار، والأفكار إلى كائنات حية، وفي سبيل ذلك اعتبر اشتباكه في العمل العام جزءا من رسالته ككاتب، وتحمل تبعات ذلك ونتائجه بنفس راضية، لأنه لم يكن من أولئك الذين يطلبون الجاه أو الوجاهة، أو الذين يعتلون الكراسي لتصنعهم أو يتولون المناصب فتدير رؤوسهم حيث السلطة والسلطان وأعتبر نفسي محظوظا لأنني اقتربت منه في ساحة العمل العام وتعلمت منه ـ ضمن باقة محترمة أعطت العمل النقابي أجمل سنوات عمرها ـ أن النقابة وطن وبيت وحصن ولا يستحق أن ينتمي إليها إلا من يدافع عنها ويحميها ويعطيها بغير انتظار وبغير غرض.
ولم تكن هناك معركة دفاعا عن الكيان النقابي أو عن حرية التعبير والصحافة أو انحيازا لقضايا وطنه وأمته إلا وكان في مقدمة الصفوف.لقد كان سكرتيرا عاما للنقابة منذ نحو 40 عاما مع النقيبين أحمد بهاء الدين وكامل زهيري، الأول خاض معركة الانحياز للمطالبة بالديموقراطية والحريات بعد هزيمة 67، والثاني أنجز مشروع قانون جديد للنقابة تضمن في وقته مكاسب مهمة للصحفيين.
وعندما ترك موقعه بمجلس النقابة ورفض خوض الانتخابات على عضوية المجلس أو على منصب النقيب احتفظ بمكانته ولم يتخل عن دوره النقابي المؤثر والفعال داخل الجمعية العمومية وكان هذا درسا آخر قدمه لجيلنا، ولن تسعفني الذاكرة أو الوقت أو المساحة كي أشير إلى مواقفه داخل ساحة العمل النقابي، ففي أثناء أزمة القانون 93 لسنة 1995 الذي استهدف تقييد حرية الصحافة لم يتخلف مرة واحدة عن حضور الجمعيات العمومية والمشاركة في أعمال لجان واجتماعات كثيرة استهدفت الخروج من هذه الأزمة، ورأس المؤتمر العام الثالث في سبتمبر من العام نفسه الذي قررته الجمعية العمومية لوضع إطار لمشروع قانون جديد تخوض به النقابة معركتها لإلغاء القانون 93.
وفي أحد الاجتماعات بين مجلس النقابة ونواب مجلس الشورى من الصحفيين للتشاور حول مشروع النقابة وكان يحتوي على مادة تطالب بعدم جواز فصل الصحفي إلا بعد إخطار النقابة بمبررات الفصل ثم تقوم بدور التوفيق فإذا لم يصل إلى نتيجة تقوم بدور التحكيم الذي يكون بمثابة حكم ملزم لأطرافه ويجوز الطعن عليه استئنافيا، وكان من بين المدعوين الدكتور رفعت السعيد الذي أبدى اعتراضا شديدا على وجود هذه المادة وطالب بحذفها، وقال: «كيف تكبلني النقابة فلا أستطيع أن أفصل صحفيا لا يعمل؟».. وهنا انفعل صلاح الدين حافظ في مرافعة رائعة مغلفة بالسخرية والمرارة ورد متهكما: «إنكم لم تتوقفوا عن أن تعطونا دروسا في الاشتراكية وحقوق العمال وضمانات علاقات العمل، ثم عندما نترجمها في تشريع قانوني، أنت الذي تغضب وتطالب بحذفها!».
وخلال أزمة القانون كتب مؤكدًا «إن الردع بشدة القانون وغلظة العقوبة وقسوة التشريع لا ينفع، وقال إن حرية الصحافة لن تكون مسئولية إلا في مناخ عام يشيع الاستنارة ويقبل النقد ويؤمن بالحريات ويمارس الديمقراطية».وظل الراحل في مقدمة الأصوات المطالبة بإلغاء ترسانة القوانين المقيدة للحريات، وعندما عقدت جمعية عمومية في مارس 2006 للمطالبة بإلغاء الحبس في قضايا النشر، شارك في كل أعمال واجتماعات هذه الجمعية وخرج مرتين ـ رغم شدة مرضه ـ في أبريل ويوليو من العام نفسه في تظاهرتين أمام مجلس الشعب وسط جمع من النقابيين والصحفيين وأنصار حرية التعبير كي يخرج التشريع ملبيا مطالبهم، لقد خاض صلاح الدين حافظ معارك كثيرة حتى مع مرضه الذي لازمه عدة سنوات توقف ـ على غير عادته ـ عن المقاومة مستسلما وراضيا عقب وفاة ابنه في شهر أغسطس الماضي، لكن يشاء ترتيب القدر أن يجعله يترك لنا وصاياه الأخيرة قبل فاجعته بشهور قليلة فقط، فقد صدر كتابه الأخير «تحريم السياسة وتجريم الصحافة» ثم كتب مقالا مهما في أبريل من العام الجاري بعنوان «فهل إلى خروج من سبيل».
في الكتاب تكلم عن المناخ الذي يوجع قلب الإنسان وقلب الوطن وقال: «لا أظن أن الدائرة الجهنمية ستظل دائرة إلى الأبد وعليك أن تختار وتحدد موقفك إما عبدا في الدائرة الجهنمية وإما سيدا في وطن الحرية»، وأكد «إن القهر باسم القانون أو من خارج سلطة القانون لا يقضي على حرية الصحافة، والاتهامات والمحاكمات والعقوبات لن توقف المطالبة بالحريات، ولن تستطيع إسباغ التقديس على ما هو غير مقدس، ولا إضفاء التحريم على ما هو غير محرم»، وفي مقاله اقترح تشكيل هيئة تضم 200 شخصية وطنية لتضع من الآن مشروعا سياسيا لرؤية لمستقبل مصر حتى عام 2025 كمرحلة أولى بما يعيد صياغة السياسات العامة والفلسفة الحاكمة كمشروع قومي موحد يحدد المسؤوليات والواجبات انطلاقا من خمسة مبادئ حاكمة وهي إصلاح ديمقراطي حقيقي، وتنمية بشرية شاملة، وتحقيق العدالة الاجتماعية للطبقات والفئات الأفقر في مصر، ومحاربة تحالف الفساد والاستبداد، وترشيد الليبرالية المتوحشة وقمتها العولمة الشرسة التي تطحن الشعب الفقير المقهور أصلا ونهاية فإن صلاح الدين حافظ معين لا ينضب من الفكر الحر والإبداع الإنساني والوطنية الصادقة والأخلاق الرفيعة وكثير من المعاني التي لا ترحل مع صاحبها.