ما شهدته فرنسا ليلة الجمعة الماضية من هجمات متزامنة أودت بحياة العشرات من المدنيين وأصابت عشرات آخرين، هو الحدث الإرهابى الأول من نوعه على مستويين: الأول، المستوى الفرنسى والأوروبى، فهذا هو العدد الأكبر من الضحايا فى فرنسا نتيجة لعملية إرهابية والثانى فى عدد الضحايا فى أوروبا بعد تفجير قطار مدريد بإسبانيا على يد إحدى خلايا القاعدة عام 2004 والذى أوقع 191 قتيلاً وأكثر من 1700 جريح. المستوى الثانى للهجمات الإرهابية فى فرنسا، هو أنها الأكبر على الإطلاق التى يقوم بها تنظيم داعش أو أحد فروعه خارج المناطق التى يتواجد بها ويقاتل فيها وهى العراق وسوريا وليبيا.
ولا شك أن ملابسات الهجمات الإرهابية وبيان المسؤولية الذى أعلنته داعش يشير إلى الملامح الرئيسية لما تم فى باريس، والتى تتلخص فى المحاور التالية:
أولاً: لماذا فرنسا؟
ما أعلنه تنظيم داعش فى بيان مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية، هو أسباب ثلاثة، أولها ما رآه تصدر فرنسا للحملة العسكرية على التنظيم فى سوريا والعراق، والثانى ما سماه «تجرؤهم على سب النبى (صلى الله عليه وسلم)»، والثالث ما أطلق عليه الحرب على الإسلام فى فرنسا. وقد تكون هذه هى الأسباب المعلنة للهجمات الإرهابية على باريس، إلا أن اشتراك دول غربية أخرى فى بعض من هذه الأسباب سواء كانت الولايات المتحدة أو بعض الدول الأوروبية يطرح التساؤل حول لماذا فرنسا قبلها جميعاً؟ والحقيقة أن المرجح هو أن المكانة الرمزية لفرنسا دولياً باعتبارها دولة «العلمانية» والتحرر الأولى فى العالم دفعت التنظيم للبدء بها، بالإضافة إلى وجود بيئة بشرية مناسبة لتجنيد أعضاء للتنظيم سواء من الجاليات العربية والمسلمة الكبيرة المقيمة بفرنسا أو من الفرنسيين الذين يمثلون نسبة مهمة من أعضاء داعش فى المشرق العربى وليبيا. كذلك، فإن موقع فرنسا الجغرافى بقلب أوروبا الغربية وإمكانية التنقل منها وإليها بسهولة للدول المجاورة بخلاف إنجلترا التى يفصلها عن القارة بحر المانش، ربما لعب دوراً فى اختيار فرنسا لتكون الهدف الأول الأكبر لعمليات داعش الإرهابية فى دول الغرب عموماً وأوروبا خصوصاً.
وقد كان التنظيم واضحاً فى بيان إعلان مسؤوليته عندما وصف الهجمات الإرهابية بأنها «أول الغيث وإنذار لمن أراد أن يعتبر»، وهو ما يعنى أمرين: الأول هو أن المجموعات الهاربة من التنظيم بعد هجمات باريس ستشرع، وعلى الأرجح فوراً وفى خلال وقت قصير للغاية، فى تنفيذ عمليات أخرى ذات طابع استعراضى ويهدف إلى إيقاع أكبر عدد من الضحايا. الأمر الثانى هو أن دولاً أوروبية وغربية أخرى ستكون الأهداف التالية لهجمات داعش فى فترات لن تكون بعيدة أو طويلة على الأرجح.
ثانياً: تغير استراتيجية داعش
كما هو معروف فى أداء أكبر اثنين من التنظيمات الإرهابية المنتسبة للإسلام، أى القاعدة قديماً وداعش حديثاً، أن فارقاً جوهرياً يكمن بين استراتيجية كل منهما. فالقاعدة لم يكن تنظيماً يسعى لإقامة دولة يحكمها، ولم يسيطر على أراض فى مكان بالعالم - بما فى هذا أفغانستان- بما يمكنه من إقامة هذه الدولة وتوجيه قدراته للقتال فيها وحولها، وكانت استراتيجيته هى شن هجمات كبيرة على ما يرى أنهم أعداء الإسلام سواء فى الدول العربية والمسلمة أو الدول الغربية، كما حدث فى السعودية وإندونيسيا والولايات المتحدة وإسبانيا. أما تنظيم داعش، فقد كانت استراتيجيته التقليدية هى توفير جميع طاقاته البشرية والعسكرية والمادية للقتال فيما يسميه ولايات دولته الإسلامية مع احتمال وجود هجمات صغيرة تتم خارجها كما حدث فى فرنسا نفسها خلال العام الحالى. ويعنى بيان التنظيم وملابسات الهجمات الكبيرة التى تمت فى باريس أننا إزاء تغير نوعى فى استراتيجية داعش لكى تشمل من الآن فصاعداً هجمات منظمة ضد أهداف فى دول غربية وعربية، ويعنى هذا أننا إزاء إعادة تنظيم جذرية لعضوية وهيكل داعش وقدراته لكى يتم البدء فى هذه المرحلة الجديدة من الهجمات الخارجية ضد من يرى أنهم أعداؤه.
ثالثاً: هل هم «ذئاب منفردة» أم تنظيم للعائدين؟
شاعت فى الدراسات الغربية للحركات الإسلامية العنيفة، وعلى رأسها داعش، خلال الفترة الأخيرة نظرية وجود أفراد أو مجموعات صغيرة للغاية تقوم بالعمليات الإرهابية فى بعض الدول خارج العراق وسوريا وليبيا، وأنها ليست على اتصال بقيادة تنظيم داعش المركزية ولا تتلقى منها أوامر ولا تحصل منها على إمكانيات ولا تخضع لما تخططه من عمليات. والحقيقة أن عمليات باريس تتعارض تماماً مع هذه النظرية من عدة زوايا، وترجح أننا إزاء تنظيم صغير يمكن أن يصل أعضاؤه ما بين عشرين إلى أربعين عضواً، وأنه مرتبط بصورة مباشرة تخطيطاً وإمكانيات وتنفيذاً مع قيادة داعش المركزية.
وتوضح ملامح العمليات الإرهابية الست أن المجموعة المنفذة لها تتراوح بين 15 و20 فرداً، ما بين من قاموا بالاستطلاع ومن جهزوا المعدات اللازمة لها من مواد متفجرة وأسلحة وسيارات انتقال وإخلاء وتواصل مع التنظيم الأم لكى يصدر بيانه المفصل بهذه السرعة. وتوضح هذه الملامح أيضاً أننا إزاء أفراد مدربين بصورة جيدة على أداء كل هذه المهام القتالية والاستطلاعية والاتصالية، وهو ما يطرح احتمالاً قوياً بأن يكون بعضهم أو قيادتهم المحلية على الأقل ممن سبق لهم القتال فى صفوف داعش بالعراق وسوريا أو ليبيا وعادوا أو أعيدوا بقرار من التنظيم إلى فرنسا لتطبيق استراتيجيته الهجومية الجديدة. ويفتح هذا الباب، إذا صح، أمام خطورة «العائدين» من داعش إلى بلدانهم الأصلية، حيث إن هناك الآلاف من المواطنين الأوروبيين من المسلمين الأصليين أو المعتنقين للإسلام حديثاً من المقاتلين فى صفوف داعش، وعودة بعضهم إلى بلدانهم مع ما لديهم من خبرات وتكليفات وقدرة على تجنيد آخرين من مواطنيهم، يعنى أن احتمال تكرار هجمات فرنسا الإرهابية فى بلدان غربية وأوروبية أخرى سيكون احتمالاً كبيراً لا يمكن تجاهله.