«ما تعيش عيشة أهلك يا أخى!».. عبارة توارثناها عبر الأجيال، واعتدنا استخدامها لتبكيت كل من يتعالى بدون مناسبة على أقرانه.. عبارة اعتدنا استخدامها كناية عن تواضع عيشة الأهل وضآلة الجذور بما لا يسمح بالتعالى أو المنظرة من قبل الأبناء والأحفاد.. لكن هل كانت فعلا عيشة أهالينا كذلك؟.. أوجه كلامى هذا لأبناء جيلى.. جيلى مواليد الستينيات والخمسينيات.. هذا الجيل الذى كان أهله هم شباب أفلام الأبيض وأسود التى نعشقها.. أهالينا هم عبدالحليم حافظ وشادية.. أهالينا هم سعاد حسنى ونادية لطفى.. أهالينا هم رشدى أباظة وأحمد مظهر وصلاح ذوالفقار وشكرى سرحان.. حتى أحمد رمزى من جيل أهالينا.. أهالينا بقدر ما زرعوا حبهم فى قلوبنا زرعوا أيضا الرهبة التى كنا نشعر بها من مجرد نظرة غضب أو تحذير يلقونها لنا.. شاهد على اليوتيوب أى فيلم لأى من هؤلاء وتأمل كيف كانت عيشة أهالينا.. كانوا بيلبسوا شيك.. كانوا يذهبون للجامعات ببدل وكرافتات.. أما البنات فكانوا قمة فى الشياكة بشعورهن القصيرة والفساتين المنفوشة والتايورات...
كانوا يغنون لعبدالحليم وإلفيس بريسلى والبيتلز وكانوا يرقصون ببراعة الروك والتشاتشا والمامبو.. كانوا وطنيين دون افتعال.. تطوعوا جميعا فى المجهود الحربى دون شعارات وإعلانات.. هم الذين حكوا لك عن مذبحة بحرالبقر وهزيمة 67 فعرَفوك يعنى إيه إنك تحب بلدك وتبقى عايز تحارب علشانها.. أهلك هم اللى تنططوا من الفرحة وهم يسمعون فى الراديو خبر عبور قناة السويس، لكنك لم تفهم آنذاك لصغر سنك هم بيتنططوا كده ليه، حتى أفهمك أبوك أننا هزمنا إسرائيل الوحشة بتاعة بحرالبقر فتبدأ تشاركهم الفرحة.. كانت مامتك تتكفل بزواج الشغالة من الألف للياء لذلك لم يكن المجتمع وقتها بحاجة لجمعيات وتبرعات.. كانت الشغالة على فكرة هى كمان شعرها مكشوف وبتلبس قصير وربما تكون على علاقة حب بالمكوجى لكن لم يكن هناك جرائم اغتصاب، ولم يحدث أن قتلت خادمة مخدومتها.. أهلك كانوا يفتحون الراديو أول ما يصحوا من النوم ثم يوقظونك فكان أول ما تسمعه فى يومك المذيع قائلا «هنا القاهرة».. كنت تتناول إفطارك وإنت قاعد على السفرة نايم على روحك لكنك ما إن تسمع أغنية برنامج «طريق السلامة» تتنفض مسرعا تحمل شنطة المدرسة لأن كده أتوبيس المدرسة هيفوتك..
كان ميعاد الغذاء فى الساعة الثالثة فى كل البيوت.. الالتفاف حول منضدة الأكل كان مقدسا، وممنوع حد يقوم حتى لو انتهى من أكله، فنظل جالسين حتى ينتهى الجميع.. أهلك هم الذين حفظوك الفاتحة وسورة يس.. علموك إزاى تتوضأ وتصلى.. مامتك كانت تريك كيف تغرف الأكل للشغالة مثلما تغرفه لك ولإخوتك لتغرس فيك حب الخير والتواضع.. لم يكن مسموحا لك أن تتهم المدرس بأنه يضطهدك، فالمعلم عند أهالينا كاد أن يكون رسولا.. كان على أيامنا أيضا درجات شهرية للسلوك ويا ويله من كان يحصل على أقل من الدرجات النهائية فيها حيث كان يُستدعى ولى أمره... لم نعرف عدم الذهاب للمدرسة لأنك ثانوية عامة، فالذهاب للمدرسة كان مقدسا عند أهلك حتى لو كان عندك برد وبتموت.. التليفزيون كان ممنوعا أثناء الدراسة ما عدا الخميس والجمعة، ومسلسل الساعة السابعة لو كان كوميديا.. أهالينا جذبتهم مسلسلات دالاس وفالكون كريست ونوتس لاندنج فأضافوها للمسموح لك بمشاهدته فى التليفزيون..
مصر كلها كانت بتتغذى الساعة 3 وتقيل بعد الغذاء وتتفرج على مسلسل الساعة 7 وبرنامجى جولة الكاميرا ونافذة على العالم ثم نشرة أخبار التاسعة ثم دالاس أو نوتس لاندنج.. مصر كلها كانت أبا واحدا وأما واحدة.. نحن الجيل الوحيد الذى اشترك مع أهله فى نفس الاهتمامات رغم أن جيلنا صاحبته اختراعات لم ينشأ أهلنا عليها.. لكننا أكثر جيل ارتبط بأهله وتطبعنا بطباعهم.. حبينا عبدالحليم وأم كلثوم مثلهم.. ضحكنا مع الثلاثى مثلهم.. عشقنا الفوازير مثلهم.. عطفنا على الشغالة مثلهم.. لكن للأسف فشلنا نرتبط بأولادنا مثلهم.. نحن الجيل الذى كان يلعب فى الفسحة لعبة «مصر- سوريا». نحن الجيل الذى استقرت فى وجدانه عبارة «هنا القاهرة» لكنه لا يسمعها الآن.. تاهت منه كما تاهت القاهرة فى زحمة الفضائيات والشوارع وقبح العمارات. تاهت القاهرة كما ضاعت سوريا.. ياريتنا نرجع نعيش عيشة أهالينا!
www.facebook.com/ghada sherif