x

أسامة غريب مطعم الديك الذهبى أسامة غريب الأربعاء 21-10-2015 21:23


عندما التقى الرئيس أنور السادات بالسيد هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكى، فى نوفمبر 73، عقب حرب أكتوبر مباشرة، فإن كيسنجر قدم له ورقة بها ست نقاط تمثل طلبات صهيونية لم تتصور إسرائيل أن يوافق السادات عليها، غير أن الرئيس المصرى بعد أن ألقى نظرة سريعة على الورقة نحّاها جانباً واعتدل فى جلسته وقال لكيسنجر: «هنرى.. دعك من هذا، أنت رجل استراتيجى وأنا رجل استراتيجى، ولا يجب أن ننشغل بالتفاصيل.. أنا موافق على كل ما فى الورقة.. لنتحدث إذن فى المهم»!.

هذا الحوار السابق ورد فى مذكرات الفريق الشاذلى، وذكره المشير الجمسى فى كتابه عن يوميات حرب أكتوبر، كما تطرق إليه محمد إبراهيم كامل، وزير الخارجية، الذى استقال أثناء المفاوضات فى كامب ديفيد من هول ما رأى من تفريط!.. كل مرة أقرأ فيها ما قاله السادات لكيسنجر فإننى أتذكر على الفور مسرحية «أنا فين وانتى فين» لفؤاد المهندس وشويكار عندما كان نظيم شعراوى يوقع بالأرامل والمطلقات فيأخذ الواحدة منهن إلى مطعم الديك الذهبى، وهناك يقول لها بتأثر بالغ: «أنتِ وحيدة وأنا وحيد، أنتِ أرملة وأنا أرمل». نفس ما قاله السادات لكيسنجر: «أنت استراتيجى وأنا استراتيجى»، غير أن نظيم شعراوى كان يخدع السيدة من هؤلاء ويستولى على ثروتها، بينما هنرى كيسنجر هو الذى أجلس السادات على حجره ثم شقلطه وشقلط مصر كلها معه، ولم تفلح معه حيلة: أنتى أرملة وأنا أرمل!

منذ تلك الأيام وأنا أنظر بتوجس إلى أى شخص يزعم أنه استراتيجى أو يطلق عليه أصدقاؤه لقب خبير أو محلل استراتيجى.. تعود إلى ذاكرتى أيام التفريط والكحْوَلة والجهل المطلق المغلف بالسلطة الغاشمة.. أتذكر أيضاً ما كتبه المرحوم جلال عامر حول رغبته التى كانت منذ الصغر فى أن يصير خبيراً استراتيجياً، غير أن إصرار أهله على أن يكمل تعليمه قد حال بينه وبين تحقيق أمنيته!.. وفى أى لقاء تليفزيونى يقوم المذيع بتعريف ضيفه للجمهور على أنه رجل استراتيجى، فإننى أتابع اللقاء مدركاً أن الطرفين (المذيع والضيف) ينتميان لنفس الفصيلة، وأنهما قد تلاقيا على فَرشة فكرية مريحة جمعت بينهما عقب تخلص كل منهما من ذهنية المفكر المقرفص فأصبحا يرفلان فى بلهنية الفكر الوسيع المبحبح، وأتخيل أن الحياء فقط ما يمنعهما من تسبيل العيون ومسك الأيادى وشُرب كأسين من عصير الليمون بعدما وجد كل عصفور منهما أليفه، وأتصور أنهما قد يقضيان السهرة بعد التسجيل فى مطعم الديك الذهبى حيث يبث كل منهما صاحبه استراتيجيات كونية فى فضاءٍ رحب!

أتصور أيضاً أننا أخطأنا كثيراً فى حرب أكتوبر عندما واجهنا الوحش الإسرائيلى العقور دون أن نستعين بمفكرين استراتيجيين كان بمقدور أى منهم أن يحل لنا إشكال خط بارليف المنيع والساتر الترابى المرتفع اللذين تغلبت عليهما العبقرية المصرية بحلول مبتكرة مثل خراطيم المياه ومثل سد فتحات النابالم قبل العبور.. كان بوسع الاستراتيجى أن يقول لنا اتركوا خط بارليف والساتر الترابى وسوف يقعان من تلقاء نفسيهما ولا داعى للتكاليف والدماء.. يكفيه أن يقول للخط: اقع يا خط حتى يقع الخط، كما يكفيه أن يقول للساتر الترابى: اقع يا ساتر حتى يقع الساتر!.. ولا يصدنى عن هذه الأمنية قول الشاعر العربى القديم فى وصف خصمه: بخيلٌ كالحطيئة، ضعيف كالشنفرَى.. ومغفل كمفكر استراتيجى!

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية