كشفت جائزة نوبل للسلام لهذا العام الفارق الواضح بين النخبة لدينا، والنخبة لدى الشقيقة تونس، كشفت تشرذم هذه، واتحاد تلك، ربما حافظت ثورة الياسمين هناك على النخبة الحقيقية، فى الوقت الذى أفرزت فيه الغوغائية لدينا تلك النخب المزيفة، نخبة إعداد الدستور، ونخبة المجالس العليا والدنيا، ونخبة الانتخابات البرلمانية، ونخبة الأحزاب الوهمية، ونخبة ثقافة البانجو والشذوذ، ونخبة المشروعات الوهمية، ونخبة برامج التوك شو، ونخبة جهاز الكفتة، ونخبة الخبراء والاستراتيجيين، اللى طالعين فى المقدر اليومين دول.
لجنة نوبل النرويجية اختارت أربع منظمات تونسية للفوز بالجائزة، هذه المنظمات قامت بالوساطة فى الحوار الوطنى هناك، وهو الأمر الذى ساهم فى استقرار الأوضاع من خلال تحول ديمقراطى حقيقى، بعد أن كانت الأوضاع على حافة الحرب الأهلية، نتيجة اغتيالات سياسية واضطرابات اجتماعية على نطاق واسع، ووصفت لجنة نوبل هذه الوساطة بأنها كانت حيوية، وأتاحت لتونس الغارقة فى الفوضى حينذاك «إقامة نظام حكم دستورى يضمن الحقوق الأساسية لجميع السكان بدون شروط تتصل بالجنس أو الأفكار السياسية أو المعتقد الدينى»، المنظمات التونسية الأربع هى الاتحاد العام التونسى للشغل، والاتحاد التونسى للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
السؤال هو: كم لدينا من اتحادات ونقابات وروابط حقوق إنسان وحيوان يمكن الوثوق بها للقيام بمثل هذا الدور سواء فى الماضى أو الحاضر أو المستقبل، كم لدينا الآن من أفراد يمكن تفويضهم شعبيا أو الاعتماد عليهم فى مثل هذه المهام؟ بالتأكيد لدينا من الاتحادات والمنظمات الكثير، إلا أن الأزمة أصبحت تكمن فى أهل الثقة، بعد أن انبطح الجميع، وبعد أن تم تشويه الجميع، وبعد أن تشرذم الجميع، إلى الحد الذى خرست معه بعض الأصوات الفردية، التى تخيلت للحظة أنها يمكن أن تقوم بمبادرة من أى نوع، أو تقدم تصوراً لاحتواء الموقف بطريقة أو بأخرى.
الدور الذى قامت به النخبة التونسية لإنقاذ البلاد، لم يكن بالأمس، أو الأسبوع الماضى، أو حتى الشهر الماضى. هذا الدور، وذلك الجهد، كان منذ عام ٢٠١٣، إلا أن تعتيماً إعلامياً لدينا حال دون وقوف الناس على الحقيقة، قد يكون اهتمامنا وقتها يتركز فى ذلك المواطن التونسى الذى لقى حتفه على أيدى رجال الأمن، أو ذلك الهجوم الإرهابى على أحد الكمائن الشرطية هناك، إلا أننا لم نهتم يوما ما بذلك التطور السلمى لانتقال السلطة عن طريق الانتخابات الحرة المباشرة، التى خسر فيها حزب النهضة الأغلبية البرلمانية، ولذلك فإن القيامة لم تقم، مادام الأمر لم يحمل شبهة من أى نوع، ولم تسفك دماء بدم بارد.
جاءت جائزة نوبل للسلام لتكشف للعالم أجمع أن هناك نخبة تونسية تحملت مسؤوليتها يوما ما، وهى التى عبرت بالبلاد إلى بر الأمان. جاءت الجائزة فى هذا التوقيت لتكشف أن هناك قصورا إعلاميا دوليا تجاه الجهود السلمية، مقارنة بتغطية أخبار العنف والحوادث، جاءت الجائزة أيضا لتؤكد حقيقة أن النخبة المصرية، باتحاداتها ومنظماتها وجمعياتها أصبحت من الماضى، ومن هنا لم يكن هناك أى رد فعل شعبى من أى نوع حينما صدر قانون الجمعيات الأهلية، الذى يحد من أنشطتها بطريقة أو بأخرى، وذلك لأن الرأى العام لم يعد يثق فى هذه النوعية من البشر، التى أصبحت الأيديولوجية، أيا كانت، جزءا أصيلا من تكوينها حتى لو كان على حساب الوطن ومستقبله.
أعتقد أن نوبل للسلام لعام ٢٠١٥ يجب أن تكون بمثابة رسالة ودرس لمثقفينا الحقيقيين الذين انسحبوا من المشهد لحساب مجموعات من الأفاكين والمرتزقة، وخدم كل العصور، الذين أفسدوا خلفهم ولحسابهم أكثر من جيل من الشباب الذى كان يجب أن يتحمل المسؤولية الآن بكل ثقة واقتدار، ولسوف نظل نؤكد أن ما حدث، أو ما وصلت إليه أحوالنا الآن، كان من خلال مسارين لا ثالث لهما: الأول هو أن الأمر كان مخططا له بعناية ودقة فائقة، وذلك بتشويه الجميع للاستحواذ على الساحة، وفرض الهيمنة، والثانى هو أن غالبية النخبة كانت جاهزة للبيع والشراء فى غياب الضمير الوطنى، ولذلك كان ما كان من تدهور سريع للحياة السياسية، وبالتالى الاجتماعية والاقتصادية، لذا كان هذا الفارق الكبير بين التجربتين المصرية والتونسية.
السؤال هو: هل يمكن تدارك الموقف، هل يمكن أن نستعيد نخبتنا من أجل مستقبل بلادنا، أعتقد أن الأمر صعب فى هذه المرحلة على الأقل، لسبب وحيد، هو أن نجاح هذا الأمر يعتمد بالدرجة الأولى على ضرورة الاعتراف بالأخطاء، ضرورة المصارحة، ضرورة المكاشفة، وأعتقد أنها حينذاك سوف تصيب أصحابها بضرر بالغ، ناهيك عن مزيد من اللعنات.
الأمر إذن يحتاج إلى جهد كبير.