x

مروى مزيد مصر والنظام الدولى مروى مزيد الثلاثاء 20-10-2015 21:12


أعود للكتابة هنا بعد توقف منذ آخر فبراير ٢٠١٤، فترة انشغلت فيها بأبحاثى الأكاديمية الميدانية فى الشرق الأوسط كله. والآن وجدتنى أتوقف عند مسودة مقال كتبته منذ ذلك التاريخ ولم أنشره. وقد حللت التقارب المصرى- الروسى فى حينها بشىء من الحيطة. أعاود طرحه، وقد اقتربت روسيا أكثر وأكثر من المنطقة بتدخل مباشر فى سوريا. لعله مازال ذَا صلة.

«النظام الدولى» World Order يتغير من حقبة زمنية إلى أخرى. تتابعت عدة نظم دولية منذ الثورة الفرنسية إلى يومنا هذا. منذ ١٩٤٥وحتى ١٩٨٩، تحديدا، بدأ نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذى تميز بالاستقطاب الثنائى ما بين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة، كذلك تميز هذا النظام الدولى بحركات التحرر من الاستعمار، مُنشئا أكثر من مائة دولة جديدة، ما لبثت أن اُستُقطبَت واحدة تلو الأخرى إما تجاه الاتحاد السوفيتى أو الغرب الأمريكى.

شهدنا حروب كوريا، فيتنام، العراق وإيران، والجهاد فى أفغانستان، وكل صراعات تلك الحقبة، والتى أُرخ لها فى الولايات المتحدة من منظورٍ أوحدٍ: وهو الحرب الباردة.

مصر الخمسينيات كانت إحدى الدول محط هذا الصراع. حركة الضباط الأحرار التى تمكنت من فرض أمر واقع جديد، بإنهاء الملكية، وجلاء الإنجليز لم تكن على خلاف مع الولايات المتحدة، كما قد يظن البعض. بل بالعكس. التقارب كان واضحا. التفت كثيرا لكتاب جلال أمين «ماذا حدث للمصريين؟» فى واقعة معينة يرويها عن الملك فاروق، الذى يُزعم أنه حين حُوصر بالدبابات اتصل بالسفير الأمريكى «ليتحقق من أنه راض عما يحدُث» (ص. ٣٢). المفترض فى الرواية أن السفير الأمريكى أقر رضاه. وأنه يَجدُر بالملك التعاون بسلام.

وقد كان. وقع الملك وثيقة التنازل عن العرش. غادر سلميا. ولم ينشأ نزاعُ على السلطة.

وقعت السلطة فى يد الضباط الأحرار، الذين، لا نستنتج بالضرورة إطلاقا، أنهم كانوا على خلافٍ مع الولايات المتحدة. فلنتذكر أن النظام الدولى القائم ما بعد الحرب العالمية الثانية ما زال يتشكل، وأن الحرب الباردة ما زالت تستقطب أتباعاً. فى هذه الفترة، مثلا، أصبحت تركيا حليفاً غربياً ودخلت فى حلف الناتو فى ١٩٥٢. مصر كانت تَزِن أمورها، وهناك احتمالٌ كبيرٌ أن تُصبح حليفا أمريكيا ـ غربيا وليس سوفيتيا.

عظيم. إذن ماذا حدث لتتبدل الأحوال؟

استوقفنى «تسلسل الأحداث» فى أحد المراجع الأمريكية الأكاديمية المهمة للكاتب «جون ووتربرى» الذى كتبه عام ١٩٨٣ بعنوان «مصر ناصر والسادات» حين بدأ رواية الابتعاد المصرى- الأمريكى بالقول «إن صفقة سلاح عقدها عبد الناصر مع تشيكوسلوفكيا، حليفة الاتحاد السوفيتى، عام ١٩٥٥ هى التى دفعت الولايات المتحدة إلى عرقلة حصوله على قرض البنك الدولى لبناء السد العالى».

بناء على هذا التصرف، بدأ يتبلور توجه أمريكى عام ضد مصر «بصفتها» حليفا سوفيتيا. الانتباه لفكرة أن «صفقة سلاح مصرية مع تشيكوسلوفكيا» «جعلها» تبدو مائلة كل الميل نحو الاتحاد السوفيتى تسلسل مهم. يعكس الرواية فى عين الطرف الآخر: أى أن مصر اختارت وقررت. والولايات المتحدة ــ فقط ــ ردت الفعل بعرقلة تمويل السد.

جاء تأميم القناة كرد فعل مصرى تالٍ لإتمام بناء السد. تبع التأميم، عدوان ١٩٥٦. إلا أن موقف الولايات المتحدة كان داعما لمصر ضد بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. ومن ثم ربما كان هناك بوادر تقارب مصرى ـ أمريكى جديد. ولكن هذا لم يتبلور فى صورة علاقات ثنائية متينة. وظل فقط فى إطار استراتيجية الولايات المتحدة فى إبعاد دول النفوذ القديمة من بؤرة المصالح الأمريكة فى المنطقة. الأطروحة مما سبق، إذن، هى أن كلا من التحالف «الأمريكى-المصرى» أو «السوفيتى-الإسرائيلى» كان ممكنا فى إطار الحرب الباردة. ماذا حدث مما جعل الولايات المتحدة تعاود «إدراج» مصر فى «خانة» الاتحاد السوفيتى؟

المعروف هو أن الولايات المتحدة كانت ترى كل شىء، كل الأحداث، كل الصراعات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية من منظور واحد ـ هيستيرى أحيانا- وهو منظورالحرب الباردة. وبالتالى أى توجه أو إماءة حدثت فى بلد ما، كانت تُأول ـ بصحة أو بخطأ ـ وفقا لترمومتر التوجه السوفيتى من عدمه.

مصر أخذت خطوات نحو الاتحاد السوفيتى، مما جعل الولايات المتحدة تتخذ من إسرائيل حليفا يُعتمد عليه. نقطة ومن أول السطر.

ليس بالضرورة من منطلق «ثقافى ـ أيديولوجى» كما يظن الكثيرون، أى أنها «أقرب» لإسرائيل «فكريا أو حضاريا». فبالعكس تماما. ثقافة الاشتراكية والشيوعية كانت أقرب لحياة «الكيبوتس» الإسرائيلى: (العيش الزراعى الصناعى الجماعى) عنها عن الليبرالية الأمريكية. وبالعكس أيضا ما سبق ١٩٥٢ من ثقافة سياسية حزبية برجوازية ليبرالية مصرية يجعل مصر أقرب للغرب الأمريكى، ولذلك التقارب «الأمريكى-الإسرائيلى» لم يكن بدهيا أو مٌسلما به، بالضرورة، ولكنه حدث من منطلق: «إذ كانت مصرالقومية العربية تتوجه إلى الاتحاد السوفيتى، إذن ينبغى للولايات المتحدة أن تتخذ حليفا فى المنطقة وتطأ قدما فى قلب مجال التأثير السوفيتى الناشئ».

تبلور هذا التوجه فى واشنطن مما انتهى ـ فى إطار الحرب الباردة ما زلنا ـ بهزيمة ١٩٦٧. باختصار، أى أن حليفة الولايات المتحدة تهزم حلفاء الاتحاد السوفيتى. نقطة أخرى ومن أول السطر.

هذه القراءة مختلفة ومهمة. الرواية العادية كانت ستبدأ بعرقلة الولايات المتحدة لمشروع السد ـ لأسباب عدائية غير مفهومة ـ مما جعل عبدالناصر يتوجه نحو الكتلة الشرقية. بمعنى «من حقه! الأمريكان لم يدعموه فى مشروعه القومى». لكن هذا السرد الذى طرحه «ووتربرى»، وهو أكاديمى مؤثر، فيما يخص كون صفقة سلاح مع تشيكوسلوفكيا هى التى أعطت إشارة إلى التوجه الجديد لعبدالناصر، مما خلق سلسلة من ردود الفعل، يستحق التوقف عنده. لأن هكذا يراك الآخر. وفى العلاقات الدولية مثل هذه التحركات لها دلالاتها التى تجعل النظام الدولى كله يرد الفعل.

«فى ظل كل هذه المعطيات، كيف لنا أن نقرأ توجه مصر الحالى والمكثف نحو روسيا- بوتين وصفقات السلاح المصرية- الروسية المتتالية؟» لعل هذا ما بدأ يدور فى أذهان واضعى السياسة الخارجية للولايات المتحدة حاليا (كتبت هذا فى فبراير ٢٠١٤). تبعات هذه التحركات قد تأخذ عقداً من الزمان قبل أن نشهد تأويلاتها لديهم وانعكاساتها لدينا (التدخل الروسى مباشر اليوم بعد مرور أقل من عامين). ولكن لعلنا لا نكون غافلين لفكرة «الإيحاء» و«التأويل» و«القراءات الدولية» للأفعال التى تقوم بها الدولة المصرية الآن، وما يترتب على تلك «التأويلات» من سياسات خارجية إزاء مصر.

فالجديد، هو رؤية أنفسنا «فاعلين» ومتحملين لتبعات أفعالنا، مما يولِّد «ردود أفعال» سلبية (أو إيجابية) تجاهنا. ولسنا فقط مفعولاً بِنَا أو مستهدفين فى مؤامرات دون أسباب واضحة. لأن مصر ـ مثل أى دولة أخرى تقوم باختيارات استراتيجية ـ ستضطر لتحمل مسؤولية توجهات سياساتها الخارجية إما عاجلا أو آجلا.

الاتحاد السوفيتى خسر أمام الولايات المتحدة حربه الباردة. وروسيا اليوم أضعف من ذاك الاتحاد. لا ينبغى أن نُعيد استعارات من حقبة زمنية ولت، بل ولت ولم تكن اختياراتنا هى الأمثل والأكثر اتساقا مع مصالحنا القومية. ولذلك فالحذر واجب.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية