x

جمال أبو الحسن لماذا لا يبتكر المصريون؟ جمال أبو الحسن الأحد 18-10-2015 21:17


متى يتمكن الركود والجمود من مجتمع ما؟ أبسط إجابة هى: عندما يغيب الابتكار. الابتكار هو المحرك الرئيسى للتقدم الإنسانى. فى غياب الابتكار تسير المجتمعات فى خط بيانى ثابت. لا تحدث طفرات أو انطلاقات. مع الوقت، يتحول الثبات إلى ركود تدريجى بطىء، لا يلبث أن يتسارع مع الوقت. ينتهى الأمر إلى التدهور والانهيار. إنها قصةٌ تكررت مئات، بل آلاف المرات فى التاريخ الإنسانى.

الابتكار– فى أبسط معانيه- هو الإتيان بطريقة جديدة لعمل شىء ما. فى أغلب فترات التاريخ، لم يكن هذا أمراً سهلاً. المجتمعات الإنسانية لم تخلُ أبداً ممن لديهم الفضول والخيال. هؤلاء موجودون فى كل زمان ومكان. المعضلة الحقيقية هى كيف يتعامل معهم المجتمع. الأغلبية الكاسحة من المجتمعات– وحتى 200 عام مضت- لم تكن تُشجع على الابتكار، بل كانت تحاصره وتُبادر إلى وأده فى المهد، لماذا؟

الأفكار الجديدة تجلب معها– غالباً- اضطرابات فى هيكل السلطة القائم فى المجتمع. تُعيد ترتيب الطبقات. تكسر الاحتكار القائم للثروة والسلطة. لهذا السبب فإن الحُكام، عبر التاريخ، لم يظهروا حماساً سوى للأفكار التى تُدعم نفوذهم (تكنولوجيا السلاح مثلاً). المجتمعات القديمة ركيزتها هى احتكار السلطة والثروة والمعرفة بواسطة القلة. الوصول إلى طريقة جديدة لعمل شىء ما، أو إبداع تصور مختلف للإنتاج يعنى خلخلة النظام وكسر احتكار القلة المُميزة. النخب الحاكمة- بطبيعتها- تكره خلخلة النظام. تُقدس الاستقرار لا الابتكار.

لهذا السبب بالتحديد تحرك قطار التطور الإنسانى ببطء شديد لعشرة آلاف عام هى عمر الحقبة الزراعية. الفلاح المصرى فى عام 1900 لم يكن يعيش بصورة تختلف جذرياً عن جده القديم عام 1900 ق.م. الحضارات الزراعية لا تُشجع على الابتكار. النظام الاجتماعى فى هذه الحضارات كان يقوم على الجباية. طبيعى ألا يُفكر الفلاح فى تطوير إنتاجه إذا كانت الحكومة تستولى على نصفه لنفسها فى كل الأحوال. الاحتكار عدو الابتكار.

لكى يبتكر الناس لابد أن يكون هناك حافز. فى العصور القديمة كان الحافزُ شبه مفقود. ما الذى يضمن لك أن تحصل على عائد من وراء فكرتك الجديدة؟ أغلب الظن أن الأفكار الجديدة– فى غياب قانون يحمى حق المبتكرين- سوف تُسرق وتُقلد. لهذا السبب كثيراً ما نقرأ عن العباقرة الذين ماتوا فقراء. الأفكار، فى حد ذاتها، لم تكن من مولدات الثروة. بل إنه كثيراً ما كان يحدث أن تظهر أفكارٌ رائعة من دون أن يتلفت إليها أحدٌ أو يعيرها انتباهاً. مثلاً: سر صناعة البارود كان معروفاً فى الصين فى حوالى 1000 ميلادية، ولكنه كان يُستخدم فى الألعاب النارية. هل يُعقل أن أحداً لم يُفكر فى استخدامه عسكرياً؟ الأكيد أن أحدهم فكر وجرب، ولكن المنظومة الاجتماعية القائمة لم تسمح بتحويل الفكرة إلى واقع.

برغم بطء نمو المجتمعات الإنسانية، فإن مُحركاً سحرياً كان يعمل لدفع الابتكار: السوق!. السوق تعنى المنافسة فى إنتاج السلع بأقل سعر وأعلى جودة. المنافسة هى أكبر حافز للابتكار. من خلال الأسواق وشبكات التجارة بين الأمم المختلفة وُلدت الأفكار الجديدة. الأبجدية انتشرت على يد التجار الفينقيين فى الألف الثانية قبل الميلاد. العصر الذهبى للحضارة الإسلامية هو عصر شبكات التجارة مع أفريقيا والهند والصين وأوروبا. المُدن الإسلامية صارت مركزاً لشبكات تُجارية ممتدة (طريق الحرير). التجارة تجلب معها المعرفة. هكذا أخذ العرب عن الهند النظام العشرى (القائم على الصفر)، وعن الصين صناعة الورق. انتقلت هاتان «الفكرتان» إلى أوروبا- عبر التجارة أيضاً- لتُصبحا مكوناً رئيسياً فى نهضتها الحديثة.

السوق، بوجه عام، دافع للابتكار. على أن هناك مشكلة أزلية واجهت كل المبتكرين. تحويل الفكرة إلى واقع (سلعة /آلة /خدمة جديدة) يحتاج إلى أموال. أصحاب الأفكار ليسوا بالضرورة من ذوى الأموال. تحقيق التواصل بين هذين الطرفين هو ما نطلق عليه الرأسمالية. إنها فكرة عجيبة مكنت الناس، لأول مرة، من الاستثمار فى المستقبل. الرأسمالية تفترض أن المستقبل سيكون أفضل من الماضى. على هذا الأساس يُمكن الاستثمار فى مشروعات وأفكار لا وجود لها فعلياً فى الوقت الحاضر، ولكن يُنتظر أن تُدر أرباحاً فى المستقبل. الائتمان البنكى– عصب المنظومة الرأسمالية- يقوم على هذه الفكرة البسيطة. إنها الفكرةُ التى ألهبت ثورة الابتكار بشكل ليس له نظير خلال القرنين الماضيين. ثمرتها هى كل ما نعاينه حولنا من أسباب التقدم والرفاهية والحضارة.

لأسباب كثيرة ومتشعبة، ما زالت مصر بعيدة عن هذه المنظومة التى لا تتحقق نهضة بدونها. الابتكار فى المجتمع المصرى مفقود لأنه لا حافز يُشجع عليه. الربح يتحقق، غالباً، بوسائل لا علاقة لها بالابتكار والأفكار الجديدة. قرأتُ مؤخراً ورقة للمركز المصرى لدراسات السياسات العامة تُشير إلى الخسائر الناتجة عن التعدى على الملكية الفنية والأدبية فى مصر. فى الورقة إشارةٌ إلى أن 75% من الكُتب العربية يتم نسخها وتزويرها. أغلب الأعمال الفنية المصرية متوفرة على اليوتيوب. ليس هناك نظيرٌ لهذا الوضع فى العالم كله. يستحيل أن تُشاهد المسلسلات والأفلام الأمريكية– مثلاً- مجاناً على اليوتيوب. النتيجة أن صناعة السينما فى مصر حققت إيرادات 230 مليون جنيه فى 2010 (فشل الكاتبُ فى العثور على تحديث موثوق لهذا الرقم، ولهذا دلالة أيضاً!)، فيما صناعة السينما والترفيه فى الهند تُحقق 25 مليار دولار.

المكلية الفكرية مجرد جزء فى منظومة أوسع ما زالت غائبة. المشروعات الكُبرى والاستثمار فى البنية الأساسية قد يكون لهما أهمية فى تنشيط اقتصاد راكد. على أنهما لا يحققان الطفرة المنشودة. لا يقودان إلى تفجير ينابيع الابتكار والإبداع لدى المصريين. من دون مجتمع مبتكر قد نحقق نمواً هنا أو هناك، ولكننا لن نذهب بعيداً.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية