x

حمدي رزق رسالة من جمال الغيطانى.. حمدي رزق الأحد 18-10-2015 21:18


«أخى الأعز حمدى: مقالك اليوم وثيقة إنسانية وأدبية بالنسبة لى، عندما أعلنت جائزة النيل كانت مشاعرى محايدة لكننى عندما قرأت ما كتبت تأثرت إلى حد ذرف الدمع، هذه الصدقية الرفيعة والمحبة العميقة، وذلك الإنصاف النبيل فى مناخ ويل لمن يمارس العمل العام فيه، غير أن أصحاباً بالضمائر الحية مثلك يقولون شهادة صدق، وهذا يكفى، أمتن لك.. أخوك جمال الغيطانى»..

كانت هذه رسالته الأخيرة قبل أن يدخل الغيبوبة استعدادا للرحيل، تعقيباً على كلمات أنصفته، كتبتها بحب يوم توج بجائزة النيل استحقاقاً، تلقيت اتصالاً صباحياً ندياً، لم يكتف بالرسالة، متنها باتصال قائلا: «قررت أن أسجل مشاعرى نحوك كتابة، كما سجلت مشاعرك نحوى كتابة..».

رحل الغيطانى راضيا مرضيا، تاركا حروفا صغيرة دامعة على هاتفى، عادة أمحو الرسائل كلها بحلوها ومرها إلا رسالة الغيطانى ظلت وستظل فى ذاكرتى، هى فى سمعى على طول المدى نغم ينساب فى لحن أغنى، بين شدو وحنين وبكاء وأنين، كيف أنساها وسمعى لم يزل يذكر دمعى.

عاش، الله يرحمه، متعبدا فى المحراب، لم يتاجر بالمحروسة، ولم يتبضع باسمها فى أسواق النخاسة المضروبة شرقا وغربا، فى حِله وترحاله مصر فى خاطره وفى دمه، لو ترك وصية لكانت «خلوا بالكم من مصر».

فى زمن الشدة الإخوانية والسنوات العجاف، عصر نفر الليمون، وقبّل نفر مختالون يد المرشد زلفى، كان أكثرهم يختانون أنفسهم ووطنهم فى المخادع الإخوانية، مر علينا زمن كان الحج إلى مكتب الإرشاد طقساً مرعياً، وتبويس اللحى تقليداً مستقراً، والركوع والسجود خلف مرشد الإخوان رياءً.

الغيطانى وثلة من الوطنيين، لا حج إلى مكتب الإرشاد ولا اعتمر ولا خلع الحذاء طهارة، ولا بش ولا هش لمقدم كبيرهم الذى علمهم السحر، قبض على جمر الوطن، كان من القابضين، ولم يمارٍ فى حق يعتقده فى حكم وطنى، يصونه خير أجناد الأرض.

الغيطانى الذى استهدفه الإخوان حياً ويستهدفونه ميتاً، لم يبال، ولم ينكسر رمحه، ولم يضل الطريق، وظل يراهن على شعبه وفى القلب منه جيشه، فكان من المرابطين، كثيرا ما كان يتعطف بمكالمة صباحية، أعرف ساعتها أن الغيطانى واجف، هناك ما يتهدد مصر، لا يقف ساكناً، يتحرك من فوره، يحشد الصف، يوقظ الغافل، ويؤذن فى النائم، أن استيقظ.

قرون استشعار الغيطانى دوماً كانت هناك صوب الحدود، تشعر من خشيته أن الفرنجة يطرقون الأبواب، ووالى عكا الخائن يعاود الظهور، فتتهيأ للمعركة الفاصلة، والغيطانى يمرق بفرسه صارخاً بيننا، الوطن ثم الوطن ثم الوطن، وفى القلب منه إياكم والجيش.

مصر فى فكر الغيطانى جيش نبتت من حول شجرته الظليلة دولة عظيمة ذات حضارة، تغتسل مباركة فى ماء النهر الخالد، إياكم وقطع الشجرة، كاد قلبه العليل يتوقف عندما هتف المأجورون ذات يوم أسود «يسقط يسقط حكم العسكر» لم يسكت سكوت المخاتلين، ولم يطق صبراً على شعار خائن، خرج يؤذن على جيشه، ويذب عنه الذباب الأزرق.

لست أنا من يرثى صاحب التجليات، فقط أتحدث عن جندى مجند فى حب مصر، لو لم يولد الغيطانى أديبا أريبا، لكان مؤرخا عسكريا فريدا، عندما يكتب الغيطانى عن بطولات الجند لا يكتب عن أساطير تطير، بل يكتب عن بشر من لحم ودم، عن سيقان مغروزة فى الطين، وعن وجوه لوحتها شمس برمهات، وعن بسطاء عظماء، الغيطانى كان جواهرجيا يجلى المعدن الأصيل، وينتقى من بين العاديين بشراً ينظمهم فى عقد فريد فى جيد حسناء اسمها مصر.. ومصر الأم تبكى ابنها البار..

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية