x

عبد المنعم سعيد الفيلسوف على سالم عبد المنعم سعيد السبت 26-09-2015 21:39


كانت الساعة السابعة صباحاً في مدينة بوسطن الأمريكية عندما نظرت لأول مرة في شاشة تليفونى المحمول، فكان خبر المقدمة «وفاة المؤلف المسرحى على سالم». في الخارج يكون الألم مضاعفاً: مرة لأن شخصاً تحبه ذهب عن دنيانا؛ ومرة لأنك لن تكون متواجداً في وداعه الأخير، ولن تتاح لك الفرصة لكى تتبادل «الحكى» عن الفقيد، وكيف كانت آثاره عليك شخصياً وعلى الآخرين. ذلك النوع من «الفقدان» فيه لوعة ما هو أكثر من الألم. لم يكن على سالم من جيلى، ولم يكن صديقاً بمعنى التواجد في شلة أو جماعة تجمعنا معاً، ولكن كانت هناك رابطة من نوع ما، فيها نوع من التجربة المشتركة، ونوع آخر من الإعجاب المتبادل. من ناحيتى شاركت الكثيرين في متعة مشاهدة «الكوميديان» فيه، فكانت هذه ما عرفه الناس به، كما شاركت مجموعات من البشر الإعجاب به «حكَّاءً» عظيماً، كما شاركت مع مجموعة «أقلية» من البشر في الإعجاب به «سياسياً» داعياً للسلام وساعياً إليه عندما عبر الحدود باحثاً عن مخرج من صراع بدا ويبدو أبدياً، استحكمت لدى أطرافه فكرة اللاخلاص.

«الكوميديان» و«الحكاء» و«السياسى» لا يُلخصون على سالم ما لم يقف وراءهم «الفيلسوف» الذي لم يكتب أبداً في الفلسفة، ولكن الحكمة والبحث عن الوجود وأصول القضايا والمسائل ظلَّا دائماً في البحث عن القصة وما وراء القصة. في «الحكاية» ينتقل صاحبنا من قصة إلى أخرى بسلاسة ويسر، منتقلاً من التفاصيل إلى الحكمة بسهولة مدهشة. المهم في النهاية أن تخرج مبتسماً، وأحياناً ضاحكاً، وفى كل الأحوال سوف تكون مندهشاً لأن الرجل في كل حياته وحكايته يظل عائشاً في الدهشة. لا يوجد فرق بين الحكاية والمسرحية والعمود الصحفى الذي برع فيه على صفحات صحيفتى «المصرى اليوم» و«الشرق الأوسط». بشكل ما بدا شكل العمود هو المناسب ربما أكثر من المسرحية التي برع فيها. اعتدت في لقاءاتنا المتفرقة، عبر سنوات أحياناً، أن أسأله لماذا لا يكتب مسرحية جديدة، وكانت الإجابة دائماً أنه يفعل، وفجأة قفز إلى ذهنى أن أعمدته في النهاية هي مسرحيات، فيها الكوميديا التي تصبح في حقيقتها تعبيراً عن أجمل أشكال الدراما.

رحل عنا على سالم وهو لم يحصل على شىء شخصى لنفسه، لم يحصل على جائزة الدولة التشجيعية أو التقديرية أو جائزة مبارك التي صارت فيما أظن جائزة النيل. لم يُسمَّ اسمُه مسرحاً، ولا قاعة أطلق فيها كتاباته التي اعتاد أن يقرأ فيها على الناس. على العكس تماماً نال كثيراً من الأذى، وكان هناك من سعى لإبعاده عن اتحاد الكتاب، فدخل معها في تحدٍّ قضائى رافضاً فصله، وعندما نصرته المحكمة استقال. كانت النخبة الثقافية لديها معضلة كبرى مع الرجل، من ناحية لم يكن أمامها إلا الاعتراف بموهبته، ولكنها من ناحية أخرى لم تكن على استعداد للتعامل مع وجهات نظره السياسية إلى الدرجة التي أصبح فيها الاستبعاد استئصالاً. كان موقفه كاشفاً عن ضآلة حجم التسامح مع الرأى الآخر فينا، وفى الحقيقة كان النفاق السياسى غالباً إلى الدرجة التي جعلت رجلنا على هامش الساحة الثقافية بينما هو بما يقدمه في القلب منها. مضت الأيام على أي الأحوال، وظهر أن على سالم كان مصيباً عندما أصبحت مبادرة السلام العربية من المُحال الذي يتوق له المصريون والعرب. كان على سالم في حقل الثقافة السياسية ما كان عليه السادات في السياسة العملية: غرباء.

ذهب على سالم بعد مرض ضحك عليه لقرابة خمس سنوات، ولم يكن عجباً كيف أدار العلاقة مع حالته الخطيرة، وإنما كان كاشفاً عن امتداد علاقته مع الحياة بحيث تشمل الموت أيضاً. إنها ذات التناقضات التي طالما تحدث عنها، ويستطيع أن يدلل عليها بينما يقاطع ذلك بنكتة أو يوضح لك تلك العبقرية الذاتية، الخائبة أحياناً، لدى المصريين. بشكل ما كان على سالم فيلسوفاً متفائلاً على يقين دائم من حقيقة التقدم البشرى، وأن الشر لا يمكنه تحقيق انتصار على الخير إلا في المواقف الكوميدية الكاشفة عن خطأ أو خلل لابد أن يكون بطبيعته مضحكاً. إيمانه العظيم بمصر لم يتزعزع أبداً، وسواء كان يكتب عن دمياط أو القاهرة، ورغم أنه لم يكن هناك تقديس في أي منهما، فإن الطاقة المحركة دائماً موجودة، وباقية، وللدهشة مضمونة. سامحنى يا أخى الكريم إذا ما غبت عن وداع، ولكن الحب والتقدير سوف يظل موصولاً بين الدنيا والآخرة بذكرياتك وكتاباتك ومواقفه الشجاعة والنبيلة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية