الثبات على المبدأ الخطأ هو أهم ما يميز السلوك الرسمى المصرى خلال الأحداث العظام، أو خلال الكوارث والأزمات، سواء كانت هذه الأزمات داخل مصر، أو حتى خارجها، وكما لا توجد جهة بالداخل لإدارة الأزمات، بالتالى لن تتواجد بالخارج، التخلف جزء من تكوين الشخصية القيادية، حتى وهى في أعلى الدرجات، هل لأن هذه القيادات لم تحصل على دورات كافية في هذا الصدد، هل لأن هذا الشخص أو ذاك وجد نفسه قيادة بالصدفة، هل لأن هذا ما تعلمه ونشأ عليه، سواء في حياته الاجتماعية، أو الوظيفية، أو حتى القيادية.
نموذج صارخ ذلك الذي واكب حادث التدافع الأليم للحجاج في مِنى، وأسفر عن وفاة نحو تسعمائة حاج، إضافة إلى نحو مثلهم من المصابين، رد الفعل الرسمى المصرى فورا كالتالى، اللواء الرئيس التنفيذى لبعثة الحج المصرية: لا وفيات بين ضحايا حادث منى، على الرغم من أن عدد الضحايا لم يكن قد استقر بعد، هو في تزايد مستمر، لم يتم الكشف رسميا عن جنسيات المتوفين، ولا حتى المصابين، وبالعقل والمنطق، كيف يصل عدد الضحايا إلى هذا العدد وليس بينهم مصريون، في الوقت الذي يصل فيه جموع التمثيل المصرى هناك إلى ما يزيد على 120 ألف شخص، إذا أخذنا في الاعتبار المصريين القادمين من خارج مصر؟! والسؤال الأكثر بداهةً هنا: وما وجه الدهشة، أو حتى ما العيب في وجود مصريين بين الوفيات؟!
النموذج الأكثر غرابة هو التصريح التالى من الوزير، رئيس بعثة الحج الرسمية: «وزير الأوقاف يمنع رؤساء البعثات من الإدلاء بتصريحات حول حادث مِنى»، الديكتاتورية في أبشع صورها، حتى في أحلك اللحظات، ملايين الأُسر هنا في مصر تهرول خلف المحطات الإذاعية والتليفزيونية، أملا في خبر من هنا أو هناك، الاتصالات التليفونية مع الحجيج تصل إلى ذروتها عقب الإعلان عن الحدث، الشائعات يمكن أن تكون سيد الموقف في هذه الحالة، الوزير يأبى التحدث، ويمنع الآخرين أيضا من التحدث، قمة عدم الإحساس بالمسؤولية، قمة فرض الحالة المصرية، حتى خارج القُطر.
بعد ذلك سوف نرى الأخبار التقليدية التي اعتدناها مع كل الحوادث من هذا النوع، رئيس الوزراء يتصل برئيس البعثة للاطمئنان على الحجاج المصريين، طبعا بعد الوفاة، ثم وزير الداخلية يتصل بالرئيس التنفيذى، لواء يتحدث مع لواء، كله تمام يا فندم، كل ذلك ليس اعتمادا على معلومات، وإنما اعتمادا- كما يزعمون- على أن الطريق الذي وقع به الحادث ليس خط سير المصريين.
بعد وقت قليل، تم الكشف عن وفيات وإصابات في صفوف المصريين، ثم بعد ذلك أهالى الحجيج في مصر دوخينى يا لمونة، يلفوا السبع لفات، بتوع الديب فات فات، ما أسماء المتوفين أو أسماء المصابين؟ ولا يجدون مَن يريحهم من عذاب السؤال دون إجابة، وكأن مصابهم غير كاف، ثم تأتى شكاوى المصابين هناك بالمستشفيات، والذين يؤكدون أن أحدا لم يسأل فيهم إلا بعد فض المولد.
سيناريوهات إهمال وقصور مكررة في كل أزماتنا داخليا وخارجيا، نتيجة عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وربما نجدها مناسبة لتوجيه سؤال لوزير الأوقاف حول الأسس التي اعتمد عليها في تشكيل بعثته، ولماذا هؤلاء تحديدا، ولماذا سنوات متتالية دون منح الآخرين فرصا متساوية، وربما إذا سمحت الفرصة بتوجيه نفس السؤال إلى بعثات الداخلية والسياحة والتضامن وغيرها من البعثات الأخرى، لأمكن لنا أن نصل إلى الإجابات التي نبحث عنها.
على أي حال، يبدو أن موسم الحج هذا العام كان مشحوناً بالأحداث المؤلمة على غير العادة، منذ وقوع الرافعة داخل الحرم، ثم حريق الفندق المطل على الحرم، ثم تعطل قطار المشاعر، ثم التدافع الغريب من مِنى في الطريق إلى رمى الجمرات، وغيرها من الأحداث الأخرى، ما بين فعل الطبيعة وفعل البشر، إلا أنها في مجملها تؤكد أن تنظيم موسم الحج مازال دون المستوى الذي يأمله كل إنسان، على الرغم من خبرة السنوات الطويلة في هذا المجال، والتى من المفترض أن تكون قد أكسبت المُنَظِّمين طوال العُمر خبرة واسعة في هذا المجال، فلا ما يتم الإعلان عنه من تعويضات مالية يمكن أن يمسح دموع طفل تَيَتَّم بفعل إهمال، أو يعوض أماً ثكلى عن ابنها بفعل عدم إحساس بالمسؤولية، ولا أرملة عن زوجها بفعل قصور من فرد أو جهة، فما بالنا إذا تعلق الأمر بسوء تنظيم، حيث يتردد أن تخصيص ممرين لعلية القوم في عملية رمى الجمرات كان هو السبب في موضوع التدافع الذي أدى إلى هذا الحادث.
إلا أن الملفت للنظر هو أن ذلك القصور من داخل الدولة المضيفة، ومثيله من داخل مصر، يؤكد أنها حالة عربية خاصة، أو بمعنى أوضح، أن النفس البشرية عديمة القيمة حالة عربية دون منافس، القتلى بالآحاد، كما بالمئات، كما بالآلاف، الله يرحمهم، المهم أن الإعلان عن أرقام الوفيات يكون تدريجيا، حتى لا تحدث الصدمة، وكأن إدارة حادث غرق مركب الوراق في يوم عيد الفطر هي التي تدير حادث التدافع بمِنى في يوم عيد الأضحى، الأولى بدأت بسبعة أشخاص وانتهت بسبعين، والثانية بدأت بتسعين وانتهت بتسعمائة، التعويض قد يكون بضعة آلاف من الجنيهات كما الحالة المصرية، وقد يصل إلى مليون ريال كما الحالة السعودية، هذا هو الموضوع، لم نسمع عن مخطئ هنا أو هناك عُوقِب على قدر الفاجعة، لم نسمع من قبل، وعلى امتداد أعوام شهدت حوادث مشابهة، عن القصاص الحق في وفاة الآلاف ممن لا ذنب لهم إلا أنهم قرروا تحمل المشقة لأداء فرض من فروض الله.
أعتقد أن المطلوب الآن أكثر من أي وقت آخر، وأكثر من أي شىء آخر، هو تربية النشء في عالمنا العربى على قيمة الحياة، حرمة الروح، قدسية النفس البشرية، التي مَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، ومَن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا، أما القتل بالإهمال وبالجملة بهذا الشكل، فهو لا يقل عن القتل في سوريا بفعل القصف، أو في العراق بفعل التفجير، أو حتى في اليمن بفعل الغزو، وهو الأمر الذي كان يتطلب سواء من الوزير، رئيس بعثة الحج، أو اللواء الرئيس التنفيذى، مغادرة موقعهما المكيف فورا إلى موقع الحدث، لإحساسهما بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقهما، إلا أنها الحالة العربية.
رحم الله المتوفين من كل بقاع الأرض، وألهم أهليهم الصبر على فراقهم، وعلى التصريحات غير المسؤولة التي حمّلت المتوفين المسؤولية، بدعوى عدم توعيتهم في بلادهم بثقافة الحج والمشى والجرى والهرولة والتفويج، وأى كلام في أي كلام.