يوم الثلاثاء الماضى انطفأ نور مسرح حياة الكاتب على سالم. نزل الستار على أيقونة مهمة ساهمت فكرياً في الحياة المصرية والعربية، نفذ سهم إبداعها في الوجدان العام لا شعورياً فصارت جزءاً منه، رغم عواصف التدنيس التي هلكت نورها ظاهرياً، وسط ظلام شبورة التخبط العربى عامة والمصرى خاصة، الذي انهال بكل ما أوتى من قوة مهولة، بائسة سلبية سالبة، قوة آتية من فقدان ثقة، وليد عمى وعجز، في غياب أي تصور لاستقلالية الفرد، بل أحياناً محتقرة للمبدأ نفسه وحاقدة ضمنياً، على أقل تقدير، على من تبناه.. في هذا السياق تم «تهزيق» على سالم وتهميشه من واقع ثقافى مفلس أصلاً، ليزداد افتقاراً.
من دلائل المعنى.. عند نعى الكاتب اهتم البعض أكثر بتاريخه الإبداعى (من أمثال الكاتب إبراهيم عبدالمجيد)، ومن اهتم أكثر بتاريخه- سلبياً بالطبع وهذا من الجبن، وهذا ما هو سائد- المؤيد للسلام مع إسرائيل (راجع موقعى الجزيرة ورصد، اللذين تكلما عن فقدان أكبر المطبعين في عناوينهما...). ثم كان هناك من قال: «هو مطبع لكن أحترمه».
أما المحزن في مسألة التطبيع، التي اقترن اسم على سالم بها، فهو في أساس الهوس اللاعقلانى الذي يتصل بالموضوع، والذى اقترن بأمراض الفكر العربى والفشل المصاحب.. المرض يصيب العرب وليس إسرائيل.. وهو ليس مرضاً إلا إذا أردناه كذلك. أنا شخصياً تربيت في بيت مناهض للطريقة التي تم بها السلام مع إسرائيل، فوالدى كان ضمن وفد وزارة الخارجية الذي بعث به السادات للقدس، وكان من الذين انسحبوا من الوفد معارضين لتفاصيل الاتفاق المتبلور، ودفع الثمن غالياً فيما بعد.. لكنه تمسك بمواقفه، على عكس الكثيرين الذين أخذوا «الثواب» من السادات (ومبارك)، ثم تكلموا فيما بعد عن العدو الصهيونى.. لكنه لم يكن ضد السلام، فكان يؤمن بالسلام الحقيقى وليس فقط بمبدأ «إذا كان عندك للكلب حاجة قوله يا سيدى».. السلام المسلوب من أي معنى أخلاقى، وهو مبنى على كونيات تتفادى الأهوال للآدمين، ومقتنعة بوجود مثل إنسانية عليا بانية للتواصل.
لذلك اعلم أن هناك فعلاً مجالاً لرفض الحركة الصهيونية كفكرة قومية نابذة للمبدأ الإنسانى الكونى، المقر لتعايش القوميات في إطار عقد اجتماعى عقلانى يضمن الحقوق والحريات، لكن في هذا الإطار يمكن سؤال: أين نحن من هذه المبادئ النبيلة من حيث المبدأ؟ هل يمكن سؤال الإسرائيليين بتبنى فكرة الدول العلمانية لكل مواطنيها ونحن بعيدون كل البعد عنها؟
حتى ذلك الحين الذي يمكن معه تخيل أن مجتمعاتنا المنكوبة يمكن أن تستوعب هذه المبادئ وتحترمها، حتى من حيث المبدأ، إذاً فمن المجحف حتى اتهام على سالم بأنه يتعاون مع الشر في حين أن الشر بيننا ولا نتعامل معه، في دولة معادية للتعددية السياسية والفكرية وخاصة الثقافية، ومجتمع يمنع حرية الاعتقاد الدينى حتى الآن في صور فجة (فى التعامل مع البهائى أو الملحد مثلاً) قمعية.
لقد دفع والدى ثمن رفضه تفاصيل معاهدة السلام التي كان من المفترض أن «يوقّع» ويؤشر عليها.. أريد أن أضيف أنه كان يعتقد أنه بعد اعتمادها كان يجب أن «نحترم نفسنا» ونتعامل معها ككائن عقلانى يريد السلام فعلاً وليس- مرة أخرى- «لأنه كان عند الكلب حاجة». كانت هذه هي أيضاً وجهة نظر المفكر الفلسطينى المصرى الكبير إدوارد سعيد، وهى وجهة نظر محترمة- أخذت في التبلور مع مشاريعه الموسيقية مع المايسترو العظيم دانيل بارنبويم- لم تأخذ فرصتها عندنا؛ لأن ما منعها هو الشبورة الفكرية العظيمة.. في الغرب الذي انتقده سعيد كانت له الحرية في النقد، نقد تأييد إسرائيل وحتى أساسيات الحضارة الغربية، لكن في مصر، وكما كتبت من حوالى سنة:
«على عكس ذلك، ورغم إبداعه الفنى المركزى في تاريخ المسرح المصرى، في أعمال مثل مدرسة المشاغبين وكوميديا أوديب وعفاريت مصر الجديدة- صار على سالم منبوذاً لأسباب سياسية، بينما يستخدم البعض لغة الشحن الهستيرى غير المسؤول ليصبحوا أبطال المجال العام المصرى، حتى إذا افتقدوا أي موهبة إضافية.. ومن المحزن أن يكون الحال كذلك- الحال الذي تجسد في تجاهل إعلامى شبه تام عن حالة الكاتب الكبير، حتى عندما خضع لعملية جراحية خطيرة لاحقاً».
هذه هي مأساة على سالم، الذي أخذ من السخرية سبيلاً لكشف العبث.. العبث كان يحيطه من كل الجهات الخانقة للحياة، لكن في نقده لحرب خيالية تشبث بها البعض في سبيل معانٍ وهمية، ظل «على» رمزاً لما هو مبهج وجدى في الحياة، لأنه كان له رأى مستقل مبنى على حس عقلانى يصون وجود الذات الإنسانية.