x

فاطمة ناعوت أنا أغنى امرأة فى العالم فاطمة ناعوت الأحد 20-09-2015 21:33


من السخف أن يكتبَ الكاتبُ مقالاً عن عيد ميلاده! قد يكتبُ شاعرٌ قصيدة ليناجى تلك اللحظة الوجودية الفريدة التى تحّول فيها من فكرة افتراضية تهيمُ فى فضاء العدم، إلى وجود وجسد وروح يحملُ اسمًا، ويُحمَّلُ بأحلام مجموعة من الناس. فهذه أمٌّ تنتظر أن تكبُر وليدتُها لتحنو عليها فى هِرمِها، وهذا أبٌ يأملُ أن يُدخله طفلُه باحةَ الخلود، وتلك طفلة تترقّب وقوف المولود على قدميه كى يلاعبها ويتحمل معها سخافات الكِبار. ينسج الشاعرُ قصيدته بخيوط فرح؛ لأن عامًا جديدًا قد زاده معرفةً وحياةً، أو بخيوط قلق لأن عامًا جديدًا قد اِنتُزِعَ من روزنامة حياته، ليُعجّل بموعد مغادرته هذا العالم، وعودته من جديد إلى دنيا العدم الافتراضية التى لا يعلم ماهيتَها إلا الله.

كشاعرةٍ، لم أكتب أبدًا قصيدةً عن عيد ميلادى. إنما اعتدتُ أن أتأمل الفكرة فى صمتٍ، مثل آلاف الأفكار التى صدّعت رأسى ولم أبُح بها بعدُ للورق. كذلك ككاتبة، لم أكتب أبدًا مقالًا عن عيد ميلادى. فمنذ امتهنتُ الكتابة الصحفية؛ نذرتُ قلمى «للعام» وليس «للخاص». فأنا أؤمن أن النافذة التى منحنيها اللهُ فى الصحف، لأصافح عبرَها قُرّائى، هى لقرائى، لا لشأنى الشخصىّ. أكتبُ بصفحات الرأى لخدمة وطنى وقضايا وطنى. أما شأنى الخاص، فأنثرُ زخّاتِه من نافذة القصيدة، لا المقال. القصيدةُ لى، والمقالُ لكم.

فلماذا، إذن، ألحَّتْ علىَّ اليومَ رغبةُ الكتابة عن عيد ميلادى؟ إنما وددتُ أن أتأمل حال «الأديب» مع «المجتمع». كثيرًا ما نحزنُ، نحن الكُتّاب، حين نقارن حالنا بحال الفنان. الكاتبُ دائمًا فى موضع النقد، والرفض، والاتهام، والمساءلة. عكس الفنان الذى يحصد تصفيق الناس وحبهم. الكاتبُ لا يكون نجمًا، إلا فى دائرة ضيقة من محبى القراءة. بينما الفنان نجمٌ جماهيرى ساطعٌ تطارده الأضواءُ ويتسابق الناسُ لالتقاط الصور التذكارية معه. كان الأديب الكبير «آرثر ميلر» يسير مع زوجته الجميلة مارلين مونرو، فيتساءل الناسُ: «مَن السيد الذى يرافقُ النجمة؟» الفنان محفوف بالحب، والكاتب محفوف بالتحفّز والعداء. الفنانُ يمتعضُ وتندهشُ إن صادف شخصًا لم يشاهد أفلامه. فيما الكاتب يستحى أن يسأل، حتى أقرباءه، إن كانوا قد قرأوا كتابه الأخير. الفنان يسير على البُسُط الحمراء فوق أعناق الورود، بينما يسير الكاتبُ التنويرى على أرض موحشة مظلمة فوق أشواك التكفير والمروق إن طرح أفكارًا جديدة غير مُعلّبة، فتطارده قضايا الحِسبة، وقد يعرف طريق المعتقل أو يحظى برصاصة تستقرّ فى رأسه المشاغب حتى يصمت. الفنانُ يثرى ويعيش الرغد فى القصور ذات الحدائق، بينما الكاتب يعيشُ على الكفاف ويدقُّ الفرحُ قلبَه إن استيقظ فى الصباح ليجد أن عود الياسمين النحيل فى شرفته قد أورقَ زهرة صغيرة، ثم يدعو الله ألا يُقصف قلمُه. الفنانُ يتحدث مع أصدقائه عن بيت فى لندن وشاليه على البحر، أو سيارة فان لرحلات السفارى، بينما يشرُدُ الكاتبُ بين رفاقه وهو يُحصى ما فى جيبه من جنيهات وما يتبقى ليكتمل قسط السيارة هذا الشهر. الفنان سعيدٌ بما حصّل من ثراء وحب وشعبية. والكاتب سعيدٌ بما حصّل من كفاف واستعداء وإقصاء. لكن، يوم عيد ميلادى قبل أيام، نظرتُ إلى الأمر نظرة مغايرة، ورحت أتأمل مفهوم الثراء والفقر، لأحدد موقعى بينهما، فاكتشفتُ أننى من أغنى أغنياء العالم.

أنْ يسهر صيدلانىٌّ مصرى يعيش فى أمريكا أيامًا سبعة، وهو يعانى من أوجاع مبرحة فى عموده الفقرى وساقيه، ليرسم وجهى بالفحم على لوحة مذهلة ليقدمها لى فى عيد ميلادى، فذاك يعنى أننى كاتبة ثرية. شكرًا نادر حنّا. أن ينفق فنانٌ ساعاتٍ من يومه ليصمم من أجلى ڤيديو يحمل صورى مع أغنية عيد الميلاد، فذاك يعنى أننى ثرية. شكرًا بخيت فهيم. أن يدقّ جرس بيتى فى الثانية عشرة ظهرًا، لأجد جمهرة استثنائية من الأصدقاء والقراء والأقرباء يمزّقون الفضاء بصخب الزمامير والطبول ورذاذ الجليد والصواريخ والبالونات والطراطير الملونة والورود والضحكات والأغنيات والتورتات والهدايا الجميلة، فذاك يعنى أننى امرأةٌ ثرية. شكرًا چولا وتونى وسالى وخالد وعمر وهدوء ومنى وچيهان وميما وعصام وأحمد وفيليب ومحمد ويوسف وهانى وچورچ وسماح وهدى وفادى وميرڤت وفاطمة وأسامة ونبيل ومازن. أن أطفئ شموعَ خمس تورتات على مدار اليوم مع خمسة أفواج متعاقبة من الزوّار المفاجئين، فذاك يعنى أننى بنتٌ ثرية. أن تصلنى آلافٌ لا حصر لها من رسائل التهنئة من كل أنحاء العالم على بريدى وهواتفى وإيميلى وصفحاتى، فذاك يعنى أننى أثرى امرأة فى العالم.

كتب أجدادُنا الفراعنة على إحدى الجداريات: «كن كاتبًا، تكن على رأس العالم»، أما أنا فأقول: كن كاتبًا صادقًا، تكن أغنى أغنياء العالم.

Twitter: @FatimaNaoot

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية