يصدق القول المأثور: وراء كل رجل عظيم امرأة مُلهمة أو مُثابرة أكثر ما يصدق على أحد أبناء مصر العُظماء، وهو الدكتور إسماعيل سراج الدين، مُدير مكتبة الإسكندرية.
والمرأة التى كانت وراء العظيم إسماعيل سراج الدين، المعروف للملايين فى مصر والعالم، هى د. نيفين إبراهيم البيومى مدكور، ابنة الأمين العام الأسبق لمجلس الخالدين، مجمع اللغة العربية، أستاذ الفلسفة الإسلامية، عميد الآداب الأسبق بجامعة القاهرة.
إن مُناسبة هذا المقال هى أن د. نيفين مدكور رحلت عن عالمنا يوم 25 أغسطس 2015، بعد صراع عدة سنوات مع مرض لم يعرف أشهر أطباء مصر والعالم تشخيصاً له أو علاجاً.
وقد عرف جيلان من زُملاء وأصدقاء إسماعيل سراج الدين زوجته الوفية نيفين، منذ أتت له عروساً من مصر إلى بوسطن، حيث كان يدرس فى جامعة هارفارد للدكتوراه فى التخطيط، فى منتصف ستينيات القرن الماضى. وكان انطباعنا، نحن الذين استقبلناها معه فى المطار، أنها شديدة الجمال والوقار.
وبعد شهر عسل قصير، ستفتح نيفين بيتها الطُلابى المتواضع فى ضاحية كمبردج عبر نهر شارلز، الذى يشق مدينة بوسطن، لكل مُحبيه وضيوفه من المصريين والعرب والأمريكيين.
ورغم أن نيفين كانت أرستقراطية مثل إسماعيل، من أولاد الذوات، وفرنسية التعليم والثقافة، فإنها أمتعت ذلك الجيل من أحباء وأصدقاء زوجها بالأكلات المصرية الصميمة، من الكشرى والبصارة إلى الفتة والكشك.
ورغم اهتمامها بزوجها، وطفلهما عُمر، وكرمها وضيافتها لأصدقاء وضيوف إسماعيل العديدين من شتى أصقاع الأرض، فإنها عكفت على استكمال دراستها العُليا للدكتوراه فى الأدب الفرنسى، ولكنها لم تعمل بتلك الدكتوراه النادرة، لا فى أمريكا ولا فى مصر. واختارت أن تظل مُتفانية فى صمت ووقار فى رعاية زوجها الطموح وطفلهما الصغير.
وبعد حصول إسماعيل على الدكتوراه اختاره البنك الدولى ليكون مسؤولاً عن قسم جديد استحدثه البنك لتقديم المشورة والخدمات الفنية للبُلدان العربية النفطية، التى لم تكن مثل غيرها من بُلدان العالم الثالث فى حاجة إلى قروض أو معونات اقتصادية، فقد كان الله قد حباها بثروة نفطية هائلة. وجاءت حرب أكتوبر 1973 لتُشعل أسعار النفط وتُضاعف عوائد البُلدان المُصدرة له (الأوبك) عدة مرات. وبدأت تلك البُلدان هى التى تُقرض البنك الدولى وصندوق النقد الدولى. ولكن فى المُقابل طلبت معونة المؤسستين الدوليتين فى علاج مشكلة نقص العمالة الماهرة ونصف الماهرة، وهى المُهمة التى عهد بها البنك إلى د. إسماعيل سراج الدين.
واستلزمت تلك المُهمة أسفاراً طويلة من إسماعيل، وتغيبه عن الأسرة لأسابيع طويلة. وقبلت د. نيفين ذلك فى صمت، رغم ما كان ينطوى عليه ذلك الغياب من حرمان وجدانى لها، وهى لاتزال فى العشرية الأولى من زواجهما، وما ينطوى عليه من حرمان أبوى لطفلهما عُمر، وهو لايزال فى سنواته الأولى يحبو.
وكُنا نحن أصدقاء الأسرة نُشفق كثيراً على الزوجة نيفين مدكور وعلى الطفل عُمر سراج الدين، ولكن إسماعيل كان دائماً حاضر الحجة، وهو أن ما يقوم به للمُساعدة فى تنمية بُلدان الجزيرة العربية هو المشاركة فى ثورة لم ترها تلك البلدان منذ ظهور الإسلام فى القرن السابع الميلادى، وأن تلك التنمية فى الجزيرة العربية ستعود على بقية بلدان الوطن العربى بالخير السديد، فى شراكة من نوع جديد وغير مسبوق، فبلاد الوفرة النفطية هى فى حاجة ماسة للعمالة من بلدان الوفرة السكانية. وهو ما اتضحت فعلاً صحته، خلال عقدى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، بل ألهمنى ذلك تأليف كتاب عن تلك التطورات، سميته «النظام الاجتماعى العربى الجديد»، الذى ظهر أولاً بالإنجليزية، ثم تُرجم إلى العربية، ونشره مركز دراسات الوحدة العربية، فى أعقاب تلك الطفرة النفطية.
لقد مر كل ذلك كشريط فى خاطرى، وأنا أشارك أسرتى سراج الدين ومدكور العزاء فى رحيل العظيمة نيفين، وأراقب آلاف المُعزين الذين توافدوا على القاعة الكُبرى لمسجد الرحمن الرحيم، ليلة الثلاثاء 25 أغسطس 2015.
نعم، رأيت شيوخاً تجاوزوا الثمانينيات من عُمرهم، ممن أُطلق عليهم فى وقت سابق: «فلول العصر الملكى لأسرة محمد على»، وشيوخاً فى السبعينيات ممن خدموا فى عصر عبدالناصر، كما رأيت آخرين فى الستينيات والخمسينيات من أعمارهم ممن خدموا فى عهدى السادات ومبارك.
وفى الواقع، كان العزاء مُشتركاً بين الرجال والنساء، وضمن مَن صادفتهم فيه أصدقاء وزملاء قدامى: د. صلاح الجوهرى، ود. محمد الضو، ووزراء سابقون، منهم د. مفيد شهاب، ود. فرخندة حسن.
ومن أرق وأكرم مَن قابلتهم من السيدات كانت السيدة الجليلة جيهان رؤوف السادات، التى تُثير رؤيتها فى خاطرى ذكريات كثيرة، سعيدة ومؤلمة، ولكن رؤيتها تبعث دائماً الأمل فى نساء مصر جميعاً، فقد كانت قدوة لكل ما نتطلع إليه فى نساء مصر والوطن العربى.
رحم الله الفقيدة نيفين مدكور، العظيمة والمُجتهدة المجهولة وراء إنجازات زوجها العظيم إسماعيل سراج الدين، الذى ندعو له ولنجلهما، المحامى الشاب عمر سراج الدين، بالصبر والسلوان.
وعلى الله قصد السبيل