فى أحد بلدان الخليج كنت أقف بالشارع فى انتظار تاكسى، عندما سمعت صوتاً مصرياً يتحدث صاحبه فى المحمول بانفعال. كان الصوت عالياً بدرجة ملحوظة، ووضح انهماك صاحبه فى المكالمة لدرجة عزلته عما حوله. رأيت وجهه يحتقن بشدة وهو يقول: أنا لست مغفلاً.. عندما أسألك ما لك يجب أن تردى بصدق فى الحال.. لا أريد ملاوعة.. لا لا.. صوتك لا يقول إنك بخير.. هل تظنينى لا أعرفك؟.. لا أحد يفهمك مثلى، إننى أعرف من نبرة صوتك متى تكذبين.. هناك شىء لا تريدين إخبارى به..قولى لى ما هو.
نسيت أمر التاكسى الذى أنتظره وأصخت السمع للمكالمة التى ظهر لى أن صاحبها الشاب يتحدث إلى امرأته فى مصر، وشعرت بتعاطف عجيب مع المتحدث الذى طلب زوجته أو خطيبته ليسألها عن الأحوال فإذا بها تجيبه بلهجة لا تدعو للطمأنينة، ثم لا تريحه وتشرح له ما يكدرها. استمع الفتى لصوتها على الناحية الأخرى ثم قال فى أسى: هل تعلمين أنك كلما قلت لى لا تشغل بالك ازددت انشغالاً، وكلما قلت لى مافيش حاجة أيقنت أن هناك ألف حاجة.. أنا أسألك ببساطة مال صوتك.. بعد ذلك تحشرج صوته وغص وهو يقول دامعاً: هل تعرفين أننى هنا أطفح الدم وأعيش عيشة الكلاب من أجل سداد أقساط الشقة، وكل ما أريده منك أن تردى على المكالمة بشكل طبيعى لا يحطم أعصابى.. أما وقد قلتِ أنا كويسة بشكل مراوغ ملىء بالتنهدات فالواجب أن تكملى وتحكى لى ما حدث.. هل عاد الرجل إياه إلى مضايقتك من جديد؟ نعم؟.. ماذا تقولين؟ ارفعى صوتك أنا لا أسمعك.
أخذ الشاب يلفّ حول السيارة وهو يمسك رأسه بيديه ويجز على أسنانه ويعيد على المرأة الأسئلة عله يظفر منها بما يريحه ويجعله يعود ساكناً إلى البيت فينام ليطوى ليلة من ليالى الغربة.
تذكرت إحدى قصص يوسف إدريس القصيرة التى تحكى عن سجين تزوره زوجته فى السجن، ومن خلف السلك يسألها عن أحوالها فتجيب: الحمد لله. كل منا يعرف الناس القريبين منه ويدرك أن الحمد لله الطبيعية غير الحمد لله الممطوطة، ويفهم أن الرد مع النظر المباشر فى العينين يختلف عن الرد مع النظر إلى الأرض. فى تلك القصة تمنى الرجل لو كان حراً طليقاً حتى يأتى بالحقيقة ويعرف ما الذى يعترى امرأته ويجعل نبرات صوتها مختلفة هذه المرة، أما وجوده فى السجن فيدفعه للجنون نتيجة العجز وقلة الحيلة.
المسافر المتغرب عن أهله مثله مثل السجين بالضبط، تحجبه عن أحبائه قضبان المسافة واختلاط الحقائق بالأوهام فى ذهنه، وقد ترك فى الوطن أناساً لا يعرف ما فعل بهم الزمن فى غيابه.
أكثر ما يؤلم السجين والمسافر أن كليهما يعلم أن الجميع سيحرص على إخفاء الأخبار السيئة عنه، والحقيقة أن هذا بالضبط ما يقتله. لو أنهم يخبرونه بكل شىء دون أن يحرصوا على مشاعره، إذن لحقنوا أدرينالينه الذى ينساب وأعصابه التى تتآكل ودمه الذى يحترق وهو يستنطقهم ساعياً لاستخراج الحقيقة منهم.
إن الإمام المُجاهد الذى قال إن منفاىَ سياحة وسجنى خلوة لم يجرب أن يجرى مكالمة لا تبل الريق من خارج الديار مع من يحب، ولم تدهسه زيارة تأتيه فى السجن ثم تنتهى وقد قلبت كيانه وزرعت الشك والقلق فى عروقه. حقاً.. ما أتعس السجين وما أشقى المسافر المتغرب!