x

أيمن الجندي ذهبتْ أيمن الجندي الأربعاء 09-09-2015 21:31


ذهبتْ...

أخذتْ معها الصباح وذهبتْ. وكان يحب الشمس لأنها مقدمة للقائه بها. لأنه يقطع نفس رحلة الشمس معها. يكون حيث تكون برغم المسافات البعيدة. يرن جرس الهاتف. تقول (آلو) بغندرة، برقة، بزهو المحبين. تشتمه بدلال على أشياء وهمية لم يفعلها، ثم تدلله حتى يدور رأسه.

تلعنه لأنه لا يترك عمله ويتفرغ لكتابة خطابات لها. تخاصمه وتصالحه عشرين مرة كل يوم. وكان يعرف أن الليل قد جاء حينما تودعه، وكان الليل مُترعاً بأناشيد الضياء.

ثم ذهبتْ.

أخذتْ معها كل شىء حينما ذهبتْ.

علّمته كل شىء. دارت به على كل المطاعم. الطعام الذى يعجبه تعزف عنه وما لا يشتهيه تأكله هى. تعنفه على همجيته فى تناول الطعام. وتلوح نظرة غاضبة لا ترتشى بابتسامة مداهنة منه ولا بغَزَل متكلف.غضبة أم لا ترتشى. تعلمه آداب المائدة فيلعن أجدادها ويمضى. تشرح له معانى أغانى فيروز فى صبر. تأخذه إلى الأسواق. تزجر الباعة المتحمسين. وتمسك بيده فى حزم. شعر بكل أمان الدنيا وخال أنها لن تذهب أبداً..

ولكنها ذهبتْ.

قالت سأحبك حين تكف عن حبى، وصدقها كما تعوّد أن يصدقها. قالت له فجأة وبدون مناسبة ظاهرة: «أريد أن أذهب إلى مقام طاهرة البيت، السيدة زينب».

كان القمر أشبه بشمس، قريباً ومستديراً. وكان ذنبه الوحيد أنه لم يكن يعلم أن القمر وحيد فى سماواته الشاسعة، وأنه يكابد الوحشة. كان ذنبه الوحيد أنه لم يعلم أن القمر يخاف المحاق، ويضطرب من الذعر كلما راح يصغر ويصغر. كان ذنبه الوحيد أنه لم يفهم أن القمر الذى يهب الجميع السعادة هو فى الحقيقة ليس سعيداً.

ضريح السيدة زينب. عقيلة آل البيت. ثمة رائحة بعيدة من دم الحسين مختلطة بدمعة من عين نبى شاهد مهلك قومه.

أمسكتْ بالضريح النحاسى فارتجفتْ. هل ارتجفتْ من برودة النحاس؟ أم أن يداً خفية صافحتها؟ لا يدرى. لم تبح بذلك. طبعتْ قبلة رقيقة تجاوزت الضريح إلى المعنى الكائن خلفه.

وشرعتْ تبكى.

وخُيّل إليه أن النيل يتدفق من دموعها، لذلك لا خوف عليه من أن يجف يوماً. صمت تماماً احتراماً لشجونها. كانت تهتز كورقة يابسة فى رياح الخريف. ورقة شجر لم تسقط بعد ولكنها ستسقط! وكان أسوأ ما فى الأمر أنها تعرف أنها ستسقط! وستحملها الرياح إلى أين؟ لا يعرف! هى كذلك لا تعرف.

ما الذى حدث فى هذه الليلة؟ لا يدرى؟ ما الرسالة التى نفذت إلى قلبها من عالم الغيب؟ لا يدرى. لكن هذه الليلة كانت آخر عهده بها. بعدها ذهبت.

وكانت تعبر به الطريق وتمسك يده. أغمض عينيه وترك لها العنان كى تقوده. واستمع إلى صوت شاحنة قادمة فى الطريق ولكنه اعتبر فتح عينيه خيانة! كان أمان الدنيا كله فى يديها، وكان يعرف أنها لن تتركه.. لن تتركه أبداً...

وفجأة وجد نفسه فى العراء. يده ممسكة بالهواء، بالفراغ، بالوحشة الأبدية. وسمع صوتاً مخيفاً يقترب. كان ما زال مُغمض العينين ولذلك لم ير الشاحنة وهى تدهمه.

تدهمه لأنها ذهبت..

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية