x

طارق عثمان صراع على روح الإسلام (2-2) طارق عثمان الأربعاء 02-09-2015 21:26


بالنسبة إلى عشرات الآلاف من شباب المسلمين، كان ذلك التعبير الحازم عن الأيديولوجية الإسلامية شكلًا من أشكال الاعتراض على تدخُلات الغرب المتكررة فى العالم الإسلامي ومجابهتها. وبينما استطاع الغرب السيطرة بشكل مباشرٍ على أجزاء كبيرة من العالمين العربى والإسلامى، من أفغانستان إلى العراق (بما في ذلك بغداد، التى تُعد واحدة من أبرز العواصم في تاريخ الحضارة الإسلامية)، يُنظر إلى المواقف الغربية تجاه المُجتمعات الإسلامية باعتبارها مُتعالية فى أحسن الأحوال، ومُتشبعةً بالازدراء في أسوئها.

يتجاوز الخطر هنا الآلاف من القتلى والفوضى الهائلة التي تؤدى إليها الأيديولوجية الإسلامية العنيفة. إن هذا المزيج من الحنين إلى التفوُّق الإسلامي والتحريض على العنف يُعيد تعريف طريقة تفاعل العالم الإسلامي مع الغرب لفترة طويلة باعتبارها علاقة قائمةً على العداوة والمواجهة. ينُم هذا عن فهمٍ محدودٍ للتاريخ الإسلامي؛ إذ يختصر تجربة العالم الإسلامي مع الحداثة في القرنين الأخيرين إلى مجرد صراع مع الاستعمار، ومختلف المواجهات الجيوستراتيجية، وبتعبير صامويل هنتنجتون: «صراع حضارات». فى هذه الحالة، يختصر الإسلاميون الذين يؤمنون بالعنف هذا الصراع فى أبسط أشكاله وأغلظها: القتل باسم الدين. يزيد هذا من حدة الانقسام داخل العالم الإسلامى؛ فهو يوسِّع الاستقطاب بين الإسلاميين والعلمانيين ليُصبح الاستقطاب بين أولئك الذين يرون التاريخ الإسلامي من منظور نمو وتطور حضارته (التي استفادت من الحضارة الغربية وأضافت إليها)، وأولئك الذين يتجاهلون مساره الغني عبر قرون طويلة، وتفاعلاته الثقافية المتنوعة، ويحصرون الإسلام في المجتمعات الأولى التي نشأ فيها في شبه الجزيرة العربية وشرق المتوسط في القرنين السابع والثامن الميلاديين. يتجلَّى «الصراع المتواصل بين الحضارات»، الذى بشَّر به هنتنجتون، فى صراعٍ متواصل داخل العالم الإسلامى.

تُهدد الأيديولوجية الإسلامية العنيفة بمحو التفاهمات الحضارية التي بناها الإسلام لصالحِ اعتناقٍ متشددٍ لفهم المجتمع الإسلامي الأول، وتفسيرات حرفية للمصادر الفقهية. ترفض هذه الأيديولوجية كافة الابتكارات الفكرية التي طوَّرها المفكرون الإسلاميون لضمان استمرار الإسلام في دوره كإطار اجتماعي، مُلائم لمختلف الأجيال، وقابل للتطبيق في مجتمعات متنوعة. تنبذ هذه الأيديولوجية أيضًا أعمال الفلاسفة المسلمين فى القرون الوسطى، الذين خرجوا بالفكر الإسلامي من أصوله الصحراوية الأولى، ونقلوه إلى العالمية، وإلى الثراء الفكري لبلاد فارس والهلال الخصيب ومصر وجنوب أوروبا وشبه القارة الهندية في وقت لاحق. كما ترفض أعمال مفكري العصر الحديث، مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، الذي أسَّس لتوفيق الفهم التقليدي للفقه الإسلامي مع أساليب الحياة في المجتمعات الحديثة. دون هذه المساهمة، فإنه من المحتمل جدًا أن الليبرالية والقومية العربية كانتا لتُصبحا معاديتين للإسلام، وليس فقط للأيديولوجية السياسية الإسلامية على غرار علمانية كمال أتاتورك في تركيا. وهكذا، عن طريق نبذ التراث الغني للحضارة الإسلامية، ومحاولة فرض التفسيرات القديمة للإسلام على المجتمعات الحديثة، تقود الحركات الإسلامية العنيفة الدين نفسه بحماقةٍ إلى مواجهة مع الحداثة.

إن التخلي عن تراث الحضارة الإسلامية الغنى يُجبر العالم الإسلامي على تكرار ماضيه؛ إذ يفرض عليه الخضوع لتجارب مريرة كان قد عانى منها في القرن العاشر، ومرات عديدة منذ ذلك الحين، تجارب طوَّرت كيفية تحويل هيكل عقائدى مَرِن فى ذاته إلى إطار مرجعي اجتماعي وسياسي، قابلٍ للتطبيق في مجتمعات ذات خبرات تاريخية وخصائص ثقافية مختلفة. طوال هذه التجارب العديدة، عانى العالم الإسلامي حلقاتٍ مختلفة من العنف.

كانت بعض حلقات هذا العنف منطقيةً، بالرغم من بشاعتها. فعلى سبيل المثال، في مسعى ناجح لتوحيد أجزاء كبيرة من شبه الجزيرة العربية وفقًا للمذهب الوهابي شديد المُحافظة والتفسير الحرفي للدين، استخدم عبدالعزيز آل سعود ومقاتلوه الذين انطلقوا بدافعٍ ديني العنف. هنا، كان للعنف هدفٌ واضحٌ وقابل للتحقيق: إقامة المملكة العربية السعودية الإسلامية. ولاقى النظام الاجتماعي والسياسى الذي ترتكز عليه المملكة صدى مع التجربة التاريخية والخصائص الثقافية للمجتمعات التي كانت تعيش في هذا الجزء من العالم الإسلامي في العقود الأولى من القرن العشرين. ثمَّة أمثلة مشابهة في التاريخ كان فيها العنف، البغيض كما هو الحال دائمًا، نهجًا فعَّالًا لتحقيق هدف حيوى مستدام.

لكن أعمال العنف التي تتبنَّاها وتروِّج لها اليوم مختلف الجماعات الجهادية في شمال أفريقيا وشرق البحر الأبيض المتوسط لا معنى لها. لا يتعلَّق الأمر فقط بكون هدفهم السياسى (إقامة دولة على طراز القرن السابع في قلب العالم العربي اليوم) غير قابل للتحقيق؛ إنه يتعلَّق بكونهم يعيشون في وهم. إن إحياء أول شكل من أشكال الدولة الإسلامية، مجرَّدًا من كافة الميزات الدينية والتاريخية والثقافية والأخلاقية التي جعلت من نسخته الأصلية بذرةً لحضارة ثرية، ليس هدفًا من شأنه أن يُلهم أو يتردد صداه بين مجموعة كبيرة من العرب أو المسلمين اليوم.

إن فكر الحركات الإسلامية العنيفة اليوم يُنكر أيضًا على العالم الإسلامي التطورات الكبرى فى مجال حقوق الإنسان والحقوق المدنية التى تقترب قطاعات واسعة في معظم المجتمعات الإسلامية من النظر إليها باعتبارها حقوقًا أساسية. كما تُقيد هذه الحركات مجتمعاتها من حق البحث عن وسائل مبتكرة للاحتفاظ بإطار مرجعي إسلامى (تحت أيَّة تعريفات)، وفي الوقت نفسه، قبول معالم جديدة طوَّرتها المعرفة الإنسانية. إن هذا التفكير الجامد والأطر المُقيدة ستجعل غالبية المسلمين منفصلين تمامًا عن التفسيرات التي تجعلها علوم الفيزياء والأحياء غير قابلة للدحض يومًا بعد يوم. لن يُرسِّخ هذا فقط السبات الذي يغرق فيه العالم الإسلامي، بل سوف يُضعف تدريجيًا العلاقة بين ملايين الشباب المسلمين (والأجيال القادمة)، وبين الإسلام نفسه.

مع مرور الوقت، سيصبح هذا خطرًا على الدين. إن بساطة الفكر العنيف، والفساد الذى يُلحِقه بالنفوس، والقسوة والفجاجة التي يُولِّدها داخل المجتمعات، ستؤدى إلى إفقار وإفساد أى محاولة لتجديد الفقه الإسلامي. كلما غرس هذا التفكير نفسه داخل العالم الإسلامى، سيصبح العالم الإسلامي أقل قدرةً في التعامل مع النصوص الدينية، ومع مصادرها المتعددة. ستكون النتيجة طرقًا أقل إبداعًا في تفسير النصوص، تحديدًا فى الوقت الذى ستضعها فيه الأجيال الجديدة تحت المجهر نظرًا لوجهات النظر الاجتماعية المختلفة التي ستتسم بها، والثوابت العلمية التي ستكون مترسخةً لديها. لذا؛ يمكن القول إن الأيديولوجية الإسلامية العنيفة التي نشهدها اليوم تُمثِّل واحدًا من أهم الأخطار التى واجهها العالم الإسلامي، والإسلام نفسه، فى أى وقت مضى.

*المستشار السياسى للبنك الأوروبى للإعمار والتنمية للعالم العربى

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية