إن معظم من يُعارضون الاتفاق الإيرانى ـ الأمريكى حول الملف النووى، يفعلون ذلك لشكوكهم فى أن تلتزم إيران بمُفردات الاتفاق، وهو عدم الاستمرار فى تخصيب مادة اليورانيوم إلى الحد اللازم لإنتاج قُنبلة نووية أو أكثر.
وكاتب هذه السطور يُشارك المتشككين فى عدم التزام إيران بما وعدت به الدول الخمس العُظمى. أى أننى أعتقد، فعلاً، أن إيران ستمضى فى خططها لتخصيب مزيد من اليورانيوم، ولإنتاج أسلحة نووية.
وأعتقد أيضا أن ذلك حق مُطلق لإيران. ولا ينبغى أن يخضع لأى قيود، ما لم يتم تطبيق هذه القيود على إسرائيل، التى يُجمع المُراقبون، وكذلك التقارير الدورية للمعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية (IISS) أن المُفاعل النووى الإسرائيلى فى بلدة ديمونة، بصحراء النقب، قد أنتج خلال الثلاثين سنة الماضية ما يكفى لتصنيع ثلاثين قنبلة نووية على الأقل، بحجم تلك التى ألقتها أمريكا على مدينتى هيروشيما ونجازاكى فى أواخر الحرب العالمية الثانية (منتصف عام 1945).
وربما لهذا السبب امتنعت إسرائيل عن توقيع الاتفاقية الدولية للحد من انتشار الأسلحة النووية (NPT)، والتى يتطلب التوقيع عليها، قبول التفتيش الدورى للوكالة الدولية النووية، ومقرها فيينا، وهى الوكالة التى كان المصرى د. محمد البرادعى أميناً عاماً لها، لدورتين مُتتاليتين (عشر سنوات) فى أواخر القرن الماضى وأوائل القرن الحادى والعشرين.
لقد نجحت إسرائيل، بمساعدة فرنسا، أولاً، ثم الولايات المتحدة، لاحقاً، خلال الأربعين عاماً الماضية، أن تتحاشى مُناقشة الملف النووى الإسرائيلى. وفى نفس الوقت إقامة الدنيا وإطلاق صفارات الإنذار الصاخبة على نفس الملف فى أى دولة عربية أو إسلامية. بل أعطت لنفسها، ولنفسها فقط، الحق فى مُهاجمة وتدمير أى منشآت نووية لأى دولة شرق أوسطية أخرى، على نحو ما فعلت مع المُفاعل العِراقى أوزيراك، خلال حُكم صدام حسين، وعلى نحو ما فعلت وما تزال تفعل مع أى منشآت سورية مُشابهة.
لقد تعودت إسرائيل منذ تأسيسها (1948) على ازدواجية المعايير. من ذلك أنها لا تذعن أبداً لقرارات الأمم المتحدة، إذا كانت ضدها (هناك حوالى مائة قرار)، ولكنها تُصرّ على تطبيق كل ما هو فى صالحها. من ذلك أنها جنّدت الولايات المتحدة وبُلدان الاتحاد الأوروبى لمُحاصرة إيران وفرض عقوبات اقتصادية صارمة عليها، حتى تذعن للتفتيش على منشآتها النووية وأن يتم تفكيك تلك المنشآت.
ولكن إيران راوغت مِراراً وتِكراراً، وحين وافقت مؤخراً على الخضوع للتفتيش، فإنها اشترطت استرداد 70 مليار دولار، كانت الدول الغربية قد قامت بتجميدها منذ عام 1979 فى بنوكها، فى أعقاب الثورة الإسلامية الإيرانية ضد شاه إيران، الذى كان حليفاً وفياً للولايات المتحدة والغرب. كما أصرت أن تعود بعد عشر سنوات لاستئناف نشاطها النووى.
إن إسرائيل لا تعترف رسمياً بأنها تملك أسلحة نووية. وحتى لو اعترف بعض مواطنيها أو بعض أصدقائها بذلك، فى ندوات أو مؤتمرات أكاديمية، فإنهم، على سبيل المُماحكة يسوقون حجتين لتبرير ذلك:
*الأولى، أن إسرائيل دولة صغيرة المساحة ومحدودة السُكان، فى محيط عربى شاسع المساحة، وضخم السُكان، وشديد العداء، وبالتالى فمن حقها، بل من واجبها، أن تتسلح بأى سلاح للدفاع عن مواطنيها.
* الثانية، أن إسرائيل هى البلد الديمقراطى الوحيد فى الشرق الأوسط، ولجوء إسرائيل للحرب أو استخدام السلاح ضد أطراف أخرى، هو من القرارات التى لا بد أن يوافق عليها البرلمان الإسرائيلى (الكنيست)، وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا فى حالة خطر ظاهر وداهم.
وهذا، بعكس الدول العربية المُحيطة بها والمُعادية لها، والتى لا تخضع فيها قرارات الحرب والسلام لموافقة برلمانات منتخبة ديمقراطياً، ولكنها (أى القرارات) فى يد حُكّام مستبدين، لا رقيب عليهم ولا حسيب، من أمثال صدام حسين فى العِراق، الذى هدد إسرائيل علناً عدة مرات، بل استخدم صواريخ سكود، بالفعل، ضد أهداف ومنشآت إسرائيلية، أثناء حرب الخليج.
وبالطبع لا تكف إسرائيل عن العزف على ما حدث لليهود من محارق (الهولوكوست) ومن محاولات إبادة على يد هتلر وألمانيا النازية، خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. وتُجيد إسرائيل اللعب على عُقدة الذنب تلك التى يشعر بها الأوروبيون خصوصاً.
وقد أثارت إسرائيل، من خلال رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، نفس الحجج والمخاوف فى أعقاب توقيع الاتفاق النووى مع إيران مؤخراً. ويقود أنصار إسرائيل فى الولايات المتحدة (وهم كثيرون وأقوياء) حملة شرسة لتحريض أعضاء الكونجرس ضد الاتفاق، خاصة أن حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية قد بدأت بالفعل، رغم أن الانتخابات نفسها ستتم فى نوفمبر 2016، أى بعد أربعة عشر شهراً من الآن.
ولكن جدير بالتنويه أن معظم المؤشرات تفيد أن الحملة الإسرائيلية لن تؤتى النتائج التى يأملها اللوبى الصهيونى هذه المرة. فمعظم استفتاءات الرأى العام تُشير إلى أن أغلبية الأمريكيين تؤيد الاتفاق مع إيران.
وحبذا لو انتهز من بيدهم الأمر من المسؤولين العرب نفس الفرصة للمُطالبة بإبقاء الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، التى تشمل الأسلحة الكيماوية (الغازات السامة) والبيولوجية (الجراثيم). فتلكم لا تقل خطراً على حياة وأمن الشعوب من الأسلحة النووية. وبالمناسبة، فإن إسرائيل تملك من الكيماوى والبيولوجى بقدر ما تملك من النووى.
والله أعلم.