فى أحد كتبه تحدث المفكر الاقتصادى الأمريكى "ليستر ثورو " عما سماه " الهبوط الآمن" سواء للدولار المهيمن عالميا أو للشركات الكبيرة التى يهددها الإفلاس ولها تشابكات ضخمة مع أطراف أخرى، أى الهبوط الذى لا يحدث ارتطاما مدويا ويسبب أقل قدر من الخسائر للجميع.
راهنا يمكننا النظر إلى خطوة البنك المركزى الصينى الأسبوع الماضى بخفض سعر العملة الصينية يوان (الرينمنبى) لثلاثة أيام متتالية من هذه الزاوية. الإجراء الصينى رحب به ويا للدهشة صندوق النقد الدولى كما لم تصرخ فى وجهه وزارة الخزانة الأمريكية على الرغم من أن أمريكا دأبت طوال العقد الماضى على مطالبة الصين برفع عملتها لأنها مقومة بأقل من قيمتها فما بال أمريكا لا تعترض بينما الصين تقوم بالعكس؟.
الإجابة على السؤال تكمن فى التحليل العميق للخطوة الصينية وعدم الغضب الأمريكى معا. يعلم كثيرون أن روسيا تقود منذ أزمة 2008 حملة عالمية من اجل تغيير نظام النقد الدولى الذى قام بعد الحرب العالمية الثانية (المعروف باسم " برايتون وودز" ) والذى أسسس لسيادة الدولار كعملة لتسوية المدفوعات الدولية وقد أثبت النظام فشلا وعدم عدالة صارخين مع الأزمة المالية العالمية 2008 وما بعدها. روسيا سعت للتنسيق مع الصين والهند وجنوب أفريقيا وأطراف أخرى– ربما منها مصر– لحشد التاييد لهذا المطلب ولا زالت . الصين بدورها أو بمكرها اتخذت موقفا وسطا أو مائعا لقوة مصالحها مع الولايات المتحدة فلا هى رفضت ولاهى تحمست لتغيير النظام الحالى. بخفض اليوان فإن الصين تمهد الأرض لهبوط نسبى آمن للدولار من على عرشه كما تفسح له مكانا يليق بثقله وتاريخه. كيف؟.
تطمح الصين إلى أن تنضم عملتها إلى سلة عملات حقوق السحب الخاصة فى صندوق النقد الدولى مع العملات الأربع الكبيرة (الدولار واليور والاسترلينى والين اليابانى) وذلك كخطوة أساسية على طريق تحرير عملتها لتصبح قابلة للتداول الحر فى أى مكان فى العالم وتنافس بذلك الدولار وغيره. أمريكا كانت قد عطلت الطلب الصينى طوال سنوات مضت والآن فان ترحيب صندوق النقد الذى أشرت إليه- ولا يمكن أن يكون قد تم بغير رضا أمريكي- يفتح الباب لموقف جديد.
سؤال: ولماذا تسكت أمريكا على دخول منافس من هذا النوع لدولارها؟. الإجابة: الدولار واليوان كائنان واقعيان وبكل المؤشرات لا يمكن لأحدهما أن يلغى الآخر ولهذا لابد من لقاء فى منتصف الطريق لكنهما.
يلعبان فى هذه اللحظات "الرست الأخير" ليقيس كل منهما قوته وبعدها يجلسان على الطرابيزة لصياغة عالم ثنائى القطبية النقدية .ستقول الصين بعدها لروسيا: هذه خطوة إلى الأمام نحو عالم متعدد أنظمة الدفع بديلا عن الأحادية الدولارية الحالية، وستقول لأمريكا: لقد حميناكم من التوجه الروسى لتغيير النظام النقدى كله والآن فلنتقاسم المنافع بلا صخب .المركزى الأمريكى كان قد ترك الباب مفتوحا منذ أسابيع لرفع محتمل لسعر الفائدة فى سبتمبر المقبل كآخر خطوة يؤكد بها استمرار جاذبية الدولار كأقوى عملة فى العالم وليشد بها ما يستطيع من سيولة من اسواق الدنيا الى امريكا وحتى يقول للصينيين: الدهن فى العتاقى لسه . المركزى الامريكي قام على مدار اشهرسابقة بعمليات لرفع الدولار والى مستويات قياسية لحقن صدر العملة الامريكية بالحنان مرة اخرى وتدعيم مغناطيسيتها وقد تجاهل خلال ذلك التاثير السلبى للرفع على صادرات امريكا، قصدا، فكده كده العجز التجارى الامريكى كبير وسيستمر وهدف المركزى ابعد اذ يطمح الى تجديد السيطرة المالية للدولار مرة اخرى بعد ان اهتزت مكانته بشدة فى اعقاب 2008 . انها السيطرة التى طالما جنى منها مكاسب خرافية منذ 1971 حتى الان (اى منذ فك علاقة الدولار بالذهب) . لقد مولت مطابع الدولار التى لا رقيب عليها ومن يومها عجوزات امريكا على حساب الجميع. الان ضج المنصوب عليهم بعد ان سكتوا طويلا. مع كل نصباية كانوا يقولون: فلنتحمل هذا الشقى لقاء ما وفره استقرار المعاملات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية بفضله وبعد اضطراب شنيع قبيل وخلال الحرب. لكن للصبر على مطابع الدولار حدود . لا يطمح المركزى الامريكى الى ان يعيد انتاج الماضى فذلك مستحيل لكن يريد اعلان استمرار الهيمنة مع قدر من التنازل متمثلا فى قبول الشريك الصينى .اليوان بدوره يقول للمضاربين العالميين وعلنا- بعد التخفيض الاخير له – : الدولار المرتفع والفائدة التى سترتفع عليه على عينى وعلى رأسى لكن ما أحراكم بالمضاربة على انا ايضا ... انظروا: سعرى الذى قال الامريكان انه اقل من قيمته هاهو ينخفض أكثر ليصبح جاذبا لكم. ستربحون اكيد بحيازة اوراقى واستخدامها. المستقبل القريب سيثبت لكم ذلك. يعيش المضاربون فى حيرة عظمى.. ينظرون تارة الى الدولار الذى عاشوا معه احلى واحلك سنين العمر، والى اليوان الصاعد الذى لا يمكن تجاهل مغرياته وقوته، ويتارجحون. هذا هو السبب الجوهرى فى اضطراب الاسواق المالية العالمية قبل ان يكون مخاوف تراجع النمو فى الصين، فالتراجع ليس مفاجئا لأحد، ولا توجد دولة تظل تنمو إلى الأبد بـ 10 الى 12 %.عند مستوى معين من التطور تقل نسب النمو وهذا طبيعى. اليابان التى كانت ثانى اقوى اقتصاد- بعد امريكا- ظلت لأكثر من عشر سنوات بلا نمو رغم جعل سعر الفائدة بالسالب أو صفر لسنوات.
ايضا تبرير خطوة المركزى الصينى بان هدفها زيادة الصادرات لتحفيز النمو المتراجع هناك محل شك. ارتفاع الدولار نفسه تكفل بتقديم حافز لصادرات الصين اذا جعلها ارخص، كما ان الجميع يعلم ان الصين تعمل حاليا على توسيع الاستهلاك المحلى لترسيخ استقرار اقتصادها حتى لا يظل النمو رهنا بالصادرات فقط، مع مراعاة ان صادرات الصين يجىء جزء كبير منها من شركات امريكية وغربية تعمل هناك.
القصد ان المضاربين والمستثمرين فى النهاية سيجدون طريقهم ويتعايشون مع الوضع الجديد بشروطه. يتهم الجميع تقريبا الصين دائما بعدم الشفافية. وهذا صحيح الى حد كبير فى التجارة و فى اسعار الصرف لكن الصحيح ايضا ان الرقابة القوية على اسواق المال فى الصين لها منافعها اذ لم تهتز اسواق المال هناك خلال الازمة العالمية بسبب يقظة الرقيب ولم ينافسها الا كندا ومن اجل ذلك رفع كثيرون مؤخرا وفى العالم كله شعار: "رقابة اقوى مكاسب اكبر" بعد ان تبين للاغلبية الكاسحة من الساسة والاقتصاديين وحتى المضاربين العقلاء ان الانفلات المالى والنقدى- كالذى حدث ايام ريجان وتاتشر وبوش الابن- ليس فى مصلحة الغرب او المضاربين على المدى المتوسط او البعيد. تبين هذا حتى لهيلارى كلينتون التى قلت من قبل انها تاخذ عن لينين الشيوعى بعض نهجه وتعد باصلاح فى " وول ستريت" (حى المال الامريكي ) يقضى على راسمالية " الثلاثة اشهر" وعلى " نشطاء الكسب السريع" كما قالت اى على المضاربات الضارة حتى يركز الامريكيون على تجويد الانتاج وزيادة الانتاجية.
ظنى ان المركزى الامريكى قد لا يرفع الفائدة فى سبتمبر كما توقع محمد العريان وقد يرفعها لتسخين لعبة المنافسة مع اليوان والوصول بها الى حافة الهاوية، ولكن فى كل الحالات فان الوضع النقدى العالمى الراهن سيتغير وعلينا ان نستعد لذلك. لقد ظلت الصين تبنى لسنوات نطاقا تاثيريا لعملتها فى محيطها واقامت اتفاقيات دفع عديدة بالعملات المحلية بحيث ان 25 %من تجارتها مع العالم تتم تسويتها باليوان حاليا.
قلصت الصين منذ 2009 من شراء السندات الامريكية ونوعت من اداوت الدين وشاركت فى تاسيس بنك "البريكس" كما قادت تاسيس "البنك الاسيوى للاستثمار فى البنية التحتية" وقللت احتياجها الى المواد الخام وكدست الكثير من الذهب و العناصر النادرة عندها.. يعنى اصبح تحت يديها ادوات للتاثير فى السيولة الدولية وفى حركة البزنس والتجارة والان تتوج ذلك كله بقرب تحرير عملتها لجذب مستثمرين اكثر. فماذا فعلنا نحن كعالم ثالث؟ . هناك من يرى ان نظاما نقديا تقوده الصين مع امريكا ارحم من نظام يحكمه المركزى الامريكى وحلفاؤه من اباطرة سويسرا وحدهما لكن هل سيستفيد هذا العالم.. الثالث؟ أشك. لأنه لا يوجد صوت يذكر للدول النامية فى صياغة مثل هذه المعادلات ولن يتطوع احد من الكبار للعطف على الصغار او مراعاة مصالحهم ما لم يسعوا هم الى الضغط من اجل تحقيقها. لكن هل هناك علاقة بين ذلك كله وبين ما يحدث فى البورصة المصرية؟ يحتاج الأمر إلى معالجة أخرى.