لم آخذ خيراً من هذا المقتطف الطويل من الرواية العراقية الساحرة «طشارى» «كلمة عامية بغدادية تعنى طلقة الخرطوش التي يتبدد رصاصها في كل اتجاه» للكاتبة القديرة «إنعام كجه جى» (1952- مقيمة في باريس منذ عقود- صحفية ولها ثلاث روايات: سواقى القلوب: 2005 الحفيدة الأمريكية 2008 طشارى 2014).
العراق في عينها وقلبها وروحها يزيدها الغياب لوعة، والدم في العراق لا تبدو له نهاية. أعود للمقتطف المختار، فهو يضعك عزيزى القارئ في قلب العمل الكبير.
تقول الدكتورة الطبيبة: وردية إسكندر العراقية المسيحية التي بقيت في بغداد بعد أن مات الزوج والأقارب، وهاجر الأولاد، وبلغت هي الثمانين، وصارت تتحرك على كرسى بعجلات، أغلقت عيادتها وبيتها الخالى، ونجحت في الحصول على تأشيرة إلى فرنسا: لا تقل لاجئة ولكن قل ضيفة على الرئيس الفرنسى ساركوزى، بعد زيارة بروتوكولية لقصر الإليزيه للقاء البابا والرئيس تعود إلى شقة الضيافة التي تمنح للاجئين «آسف: ضيوف الرئيس» تجلس الطبيبة في كامل وعيها «لا شىء يزعجها سوى بعض الضعف في السمع.. وماذا تسمع هنا على أي حال في باريس»، إلى مقتطف الرواية بعد كل هذا التقديم الطويل.
الساعة هي الآن السابعة صباحاً في باريس
التاسعة في بغداد
العاشرة في دبى
مازالوا في منتصف الليلة الماضية في مانيتوبا «كندا»
وهى الواحدة بعد منتصف الليل في هاييتى
«فى هذه البلاد يعيش ابنها.. وبنتاها»
كأن جزاراً تناول ساطوره وحكم على أشلائها أن تتفرق في كل تلك الأماكن، رمى الكبد إلى الشمال الأمريكى، وطوّح بالرئتين صوب الكاريبى، وترك الشرايين طافية فوق مياه الخليج، أما القلب فقد أخذ الجزار سكينه الرفيعة الحادة، تلك المخصصة للعمليات الدقيقة، وحز بها القلب رافعاً إياه باحتراس، من متكئه بين دجلة والفرات، ودحرجه تحت برج إيفل وهو يقهقه زهوًا بما اقترفت يداه، يطارد السياح قلبها بأرجلهم مثل الكرة، ويحاول أطفالهم أن يقبضوا عليه، إنه منتفخ ويصلح للعب، يركل بالقدم أو يطوح فوق الشبكة أو يصوب في السلة، ما الضرر في قليل من الرسوم المتحركة؟ يغيب الجزار وتطلع من فيلم كرتون ساحرة شريرة تمسك بعصا البدد السحرية، ترفعها عالياً في الهواء ثم تضرب بها بقعة من الأرض كانت خصيبة، آمنة من الزلازل، محروسة بين نهرين، مأهولة بمليون نخلة، طافحة بذهب أسود، جاثمة على فوهة خليج ملتبس بين عرب وفرس.. تضرب الساحرة طاردة أهل تلك البلاد إلى أربعة أطراف الدنيا، تبددهم بين الخرائط وهم دائخون لا يفقهون ما يحل بهم، تريد أن تنتقم لأنها دميمة وشريرة وهم أهل أريحية وسماحة: قدوا من تمر وأشعار، لأنها ورق وأصباغ ورسوم تتحرك، وهم صخر جلمود، تقهقه وترسل طير اليباديد ليحلق فوق رؤوسهم، من يعرف طير «اليباديد» المنفلت من كتب الأساطير، ذاك الذي يحوم فوق أسطح البيوت الآمنة فيبعثر الأحبة ويفرقهم في البلاد.
حتى صاحبة هذه الحكاية، لا تعرف كيف حلت في فرنسا.
***
هذه رواية وثيقة نادرة خرجت من قلب فنان يحمل العراق في العقل والقلب، روح ترى فوق الأفكار الجاهزة، فوق السياسة والطائفية فوق الأعراق والأجناس، عراق يتكلم في عود منير بشير، في مقام القبنجاى، في صوت زهور حسين، على مدخل الرواية كتبت إنعام كجه جى، كما نكتب في مداخل البيوت كلمات شاعر العراق بدر شاكر السياب من ديوان أنشودة المطر من قصيدة غريب على الخليج.
لو جئت في البلد الغريب إلىّ ما كمل اللقاء
الملتقى بك والعراق على يدىّ هو اللقاء
في باريس تلتقى الطبيبة وردية بإسكندر ابن بنت أخيها، الفتى العراقى المولود في باريس من أمه التي تكتب أشعاراً لا تنشر وأب يعلق شهادة الدكتوراه فوق رأسه وهو «يقلى الطعمية» في أحد شوارع باريس، إسكندر الصغير خبير في الكمبيوتر يقضى كل أوقات فراغه في تصميم موقع لمقابر افتراضية على الشبكة يجمع فيها عظام أهله وأقاربه الذين ماتوا في الداخل والخارج، ويعرض موقعه على عمته الطبيبة التي تسحرها الفكرة في البداية، ولكنها تراجع نفسها فهى تريد قبراً حقيقياً في أرض الوطن.
أقول إن الرواية وثيقة لأنها تبدأ منذ سقوط الملكية مروراً بكل الثورات العراقية والانقلابات الدموية ثم حرب إيران وغزو الكويت ثم حروب الخليج وسقوط صدام والاحتلال الأمريكى.
لا تتوقف الرواية عند زمن ولا تتحدث باسم طائفة.
العراق يتكلم: يبكى ويضحك ويأكل التمر، ويعشق النخيل ويشرب العرق، من الموصل إلى بغداد إلى الديوانية، من الكنائس إلى المزارات المقدسة في كربلاء إلى مولد النبى إبراهيم في «أور» يولدون فرادى ويموتون جماعات.. العالم كله لا يرى.. لا يسمع.. لا يتكلم.
لا أحد يشبع من الدم العراقى الذي لا يتوقف.
اقرأ هذه الرواية- على الأقل- ليدق قلبك بعشق العراق.
طشارى «رواية» إنعام كجه جى. «العراق» دار الجديد- بيروت 2014