كنت واحداً من قليلين ممن ينتمون للتيار المدنى الديمقراطى، رحبوا بفكرة تأسيس حزب الوسط، حين تزعم المهندس أبوالعلا ماضى في تسعينيات القرن الماضى، وكان آنذاك أحد قيادات جيل الوسط في جماعة الإخوان المسلمين، الدعوة لتأسيسه، كما كنت أحد الذين نددوا بقرار لجنة الأحزاب بالاعتراض على تشكيله، وظللت لسنوات أتابع سلسلة القضايا التي أقامها فريق أبوالعلا ماضى للحصول على موافقة لجنة الأحزاب على السماح لهم بتشكيل حزب سياسى، وهو ما لم يتحقق إلا بعد ثورة 25 يناير، حين تم تعديل قانون الأحزاب وتحولت لجنة الأحزاب من لجنة إدارية تضم عدداً من وزراء الحزب الحاكم، إلى لجنة قضائية محايدة، وانفجرت ماسورة تشكيل الأحزاب، وتضاعف عددها أربع مرات، ليصل إلى أكثر من مائة حزب.
وكان وراء تحمسى للفكرة أنها كانت تقوم على الفصل بين ما هو «دعوى» وما هو «سياسى»، بحيث يقتصر دور جماعة الإخوان المسلمين على النشاط الدينى البحت بين المصريين المسلمين، لدعوتهم للقيام بفروض دينهم والالتزام بأخلاقياته، شأنها في ذلك شأن آلاف من الجمعيات الإسلامية، كالشبان المسلمين وأنصار السنة والجمعية الشرعية، وأن تخضع مثلها لقانون الجمعيات.. على أن ينفصل من يريد الاشتغال بالسياسة من أعضاء الجماعة عنها، ليشكلوا حزباً سياسياً مدنياً، يضم المصريين الذين يؤمنون ببرنامجه، ولا تقتصر عضويته على المسلمين وحدهم، أو أتباع مذهب واحد منهم، ليخضع الحزب لقانون الأحزاب الذي كان ينص آنذاك على عدم جواز مباشرة أي نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أي مرجعية دينية أو أساس دينى، أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل.
ولأن ذلك ما كنت، وغيرى من دعاة الإصلاح السياسى والديمقراطى، ندعو إليه آنذاك، فقد اعتبرت فكرة تشكيل حزب الوسط حلاً لإشكالية تاريخية تعانى منها مصر، وتقف حجر عثرة أمام تطورها الديمقراطى، إذ كان نشاط تيار الإسلام السياسى بجناحيه: المتطرف الذي يمارس العنف والإرهاب- وكانت تمثله آنذاك الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد- والموصوف بالاعتدال الذي تمثله جماعة الإخوان المسلمين- يثير قلقاً مشروعاً لدى معظم التيارات السياسية والفكرية المدنية في المجتمع السياسى المصرى، إذ كان هذا التيار، أو أحد جناحيه، هو البديل الوحيد المؤهل لاستغلال أي إصلاح ديمقراطى، لكى يصل إلى السلطة عبر انتخابات نزيهة أو عبر انقلاب، في ظل ضعف القوى المدنية وتشرذمها ونقص قدرتها على التنظيم والحشد.. وهو قلق استغله التيار الاستبدادى داخل إدارة الرئيس الأسبق حسنى مبارك لكى يبقى الوضع على ما هو عليه.
وجاء مشروع إنشاء «حزب الوسط» لكى يفتح ثغرة في هذا الحائط المسدود، بتقدم فريق من قادة جيل الوسط في جماعة الإخوان المسلمين خطوة في الاقتراب من القوى المدنية الديمقراطية، وإقراره بضرورة الفصل بين ما هو «دينى» وما هو «سياسى».. لكن الشكوك التي أحاطت بفكرة الحزب لم تقصر على قيادة الحزب الحاكم وقتها، التي رأت أنها مجرد لعبة تقسيم أدوار، بل شملت- كذلك- جناحاً من القوى الديمقراطية المدنية المعارضة، اتفقت مع الحزب الوطنى في توصيفه للفكرة على الرغم من اختلاف المنطلقات، وتجاهل الاثنان الحملات التي تبادلها الحزب مع قيادة الإخوان.
لكن ممارسات حزب الوسط بعد ثورة 25 يناير، التي اكتسبت شرعية الوجود القانونى، أكدت شكوك الطرفين، أو بمعنى أدق نبوءتهما، فارتد الحزب عن مواقفه السابقة، وتجاهل الأسس التي أقيم عليها، وتحول من مشروع حزب مستقل يسعى لإصلاح وتجديد رؤى تيار الإسلام السياسى، بالفصل بين ما هو «دعوى» وما هو «سياسى» إلى ذيل لقيادة جماعة الإخوان التي كانت قد وقعت آنذاك بين براثن أكثر أجنحتها تشدداً وتزمتاً وهو التيار القطبى.. وخضع لنفوذ رجل الجماعة القوى خيرت الشاطر، صاحب وثيقة «التمكين»، التي تنص على أن تسعى الجماعة لإدماج كل فصائل تيار الإسلام السياسى تحت قيادتها، وتقاضى مقابل ذلك عدة مقاعد في مجلسى الشعب والشورى، ومقعداً وزارياً في حكومة هشام قنديل.
وعلى عكس ما كنت أتصور- وما كان غيرى ممن تحمسوا لفكرة الحزب وأيدوها على الرغم من أنهم يقفون على الضفة الأخرى- لم تبذل قيادة «حزب الوسط» أي مجهود لكى تحاول ترشيد السلوك السياسى لجماعة الإخوان عقب ثورة يناير، ولم تعترض على اتجاه قيادتها للتحالف مع الجماعات التي تمارس العنف والإرهاب بدلاً من التحالف مع القوى المدنية التي كانت تتسول قبل الثورة اعترافها بالجماعة، أو تنازلها- في مواجهة ضغط الجماعات السلفية والمتزمتة- عن شعار «دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية»، الذي رفعته قبل الثورة وخلال الأسابيع التالية لها لتكتسب ثقة القوى المدنية الديمقراطية، وثقة القوى الإقليمية والدولية!
أما وقد أفرج يوم الأربعاء الماضى عن أبوالعلا ماضى، بعد انتهاء مدة الحبس الاحتياطى على ذمة قضية التحريض على أحداث بين السرايات، واعتذر عن الإدلاء بأى أحاديث أو تصريحات حتى تتاح له فرصة دراسة الأوضاع التي حالت ظروف السجن بينه وبين دراستها.. فكل ما أتمناه أن تشمل دراسته تلك، إجابة عن سؤال هو: كيف تقلب الزمان بحزب الوسط، فحوله من حزب يدعو لإصلاح جماعة الإخوان، ويسعى لكى يكون بديلاً لها، إلى ذيل لأكثر أجنحة الجماعة تزمتاً وتشدداً؟.. ومن هو المسؤول عن ذلك؟
وحمداً لله على سلامتك يا باشمهندس.. وكفّارة!