يتحدث صلاح عبدالصبور عن أدبائه المفضلين بوصفهم أصدقاءه، «كفافيس» و«كافكا» و«بروست» و«ديستويفسكي» و«تشيكوف» و«كازنتزاكيس» و«إليوت»، وغيرهم كثيرون.
يقترب بمهابة من عوالمهم الكبيرة المذهلة، لكنه لا ينزع عنهم الصفة الإنسانية، وهكذا يمكنك أن تجرّب العزلة والكبرياء والجنون والتمزق والاكتئاب والسعادة والمجد، وكل المشاعر، بينما تقرأ مؤلفات «عبدالصبور» النثرية «نبض الفكر»، و«كتابة على وجه الريح»، و«حتى نقهر الموت» و«أصوات العصر»، و«على مشارف الخمسين» وغيرها، عالم من المتعة الذهنية الصافية، حيث تتناثر الأفكار والرؤى والمشاعر، تقترب وتبتعد في محيط روحك، لم أعرف أحدا من المبدعين أحببته بكل هذا الإخلاص الغريب طوال ما يقرب من عشرين عاما هي «حياتى في الشعر».
...
كنت مولعا بثقافته، وأعرف جيدا أنه أحد أرق البشر على وجه الأرض، وهو الشاعر الذي قتلته كلمة مصوبة بإحكام نحو قلبه، خرج بعدها من احتفال صغير بعيد ميلاد ابنة أحد الأصدقاء إلى المقبرة مباشرة خلال ساعات قليلة، وكان الرفاق هم شهود الواقعة، ومنفذو الجريمة.
...
قبل يومين، ذهبت أسأل في مركز الكتاب الدولى عن أعمال صلاح عبدالصبور، أرشدنى العاملون في المبنى الأنيق، التابع لهيئة الكتاب، إلى صف من الكتب الجديدة ذات القطع المميز، تحتل أغلفتها جميعا صورة الشاعر المحببة، وفيها يطلق ضحكته الشهيرة المشرقة، إنها الصورة نفسها التي علت طبعة الهيئة القديمة لأعماله الكاملة، لكن الكتب الجديدة أكثر أناقة، أقل حجما، وأغلفتها ملونة، هكذا أعادت الهيئة طباعة دوواين ومسرحيات الشاعر، الذي كان، في يوم ما، يجلس فوق قمتها، أمسك «أحلام الفارس القديم»، فتدهمنى الصور: لو أننا كنا بشطّ البحر موجتينْ/ صُفِّيتا من الرمال والمحارْ/ تُوّجتا سبيكةً من النهار والزبدْ/ أَسلمتا العِنانَ للتيّارْ/ يدفعُنا من مهدنا للحْدِنا معا/ في مشيةٍ راقصةٍ مدندنه/ تشربُنا سحابةٌ رقيقه/ تذوب تحت ثغر شمسٍ حلوة رفيقه/ ثم نعودُ موجتين توأمينْ/ أسلمتا العنان للتيّارْ/ في دورة إلى الأبدْ/ من البحار للسماءْ/ من السماء للبحارْ«. إنها القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها، وأهداها الشاعر إلى«س. غ»، زوجته الإعلامية، سميحة غالب، وتحت الإهداء عبارة تقول «بيننا يا جارتى بحر عميق».
...
فوق أرضية ممر الجريون، تنام «مى»، على مقاهى القاهرة، «مى» تتسول السجائر، في شارع مصدق بحى الدقى الراقى، أرى «مى» حافية القدمين، من منا لا يعرف «مى»؟ من الذي لا يرى فيها ملامح الشاعر الحزينة الصامتة؟ بالنسبة لى، أرى فيها جريمة الشعر، وأفكر في مآلات الشعراء، لم أحاول أبدا أن أقترب منها، أن أعطيها شيئا كالآخرين، أي شىء: طعام، نقود، شاى، سجائر، بل إننى في الواقع ضبطت نفسى كثيرا وأنا أتجنب النظر إليها، لكى لا أرى دم الشاعر، وأكتشف المصير.
...
على مقهى زهرة البستان، كان موعدى مع صاحب دار النشر، لاستلام أول النسخ المطبوعة من ديوانى الجديد، كنا نراجع معا خطة التوزيع، الندوات التي سنعقدها بهذه المناسبة، الأمسيات التي سأقرأ فيها قصائدى، والمواقع الخبرية التي ستنشر المتابعات، وغير ذلك من الإجراءات التي باتت واجبة في عصر تسليع الثقافة الذي نعيشه.
إن أعظم اللحظات التي يمر بها أي شاعر، وقت أن يرى ديوانه لأول مرة، وقد خرج للنور ليعيش حياته الخاصة بعيدا عنه، وهكذا انطفأت سعادتى على ملامح مى صلاح عبدالصبور، عندما اقتحمت جلستى كأى متسول بائس، بينما تحمل في يديها علب المناديل الورقية، فأصرفها بإشارة صامتة، لتواصل الدوران ببضاعتها على موائد الجالسين.