x

شوقي علام قيمة العمل فى بناء المجتمعات شوقي علام الأحد 09-08-2015 21:33


إذا أردنا أن نبين قيمة العمل فى بناء الحضارات والمجتمعات فلابد أن ندرك أولاً أن العمل ينتظم تلك المراحل المتعاقبة المتتالية، التى يأخذ بعضها برقاب بعض، من التخطيط والتنفيذ والمتابعة، بل كل ما يبتكره العقل الرشيد من نظريات فى مجال بناء حضارة الإنسان، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها، ومن هنا انفتحت حضارة المسلمين على تجارب الآخرين، واستفادت منها، وأضافت إليها فى طول تاريخ المسلمين المشرف فى ثنائية متناغمة من التفاعل الإيجابى الحضارى، كل ذلك فى إطار منظومة الأخلاق الإسلامية.

وإن أهم ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات هو إدراكه قيمة العمل فى بناء الحضارات، واستمرار هذه الحياة الدنيا، وهو يعلم أنه المخلوق المكلَّف من قبل الله فى الشرائع كلها بالعمل على عمارة الكون واستثمار ما فيه لمصلحته، وبما ينفعه فى العيش كمخلوق مكرَّم على سائر المخلوقات.

وقد جاءت الأديان السماوية بالدعوة إلى السعى فى الأرض من أجل تحصيل أسباب العيش وجلب ما يحقق السعادة للإنسان الذى هو محور هذا الكون، وجاء الإسلام الحنيف وكلَّف بهذا المعنى وأكده فى كثير من نصوصه الكريمة، ومن ذلك قول الله تعالى: (هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [تبارك: 15].

ومن عظمة الشريعة الإسلامية أنها بيَّنت أن هذا السعى وتلك الحركة يشكلان ما يعرف بطاقة العمل وبذل الجهد فى تحصيل الخير للإنسان، ولكل ما حوله؛ بل ربطت العمل الصالح بكل أنواعه وصوره بقضية الإيمان التى هى أساس العلاقة بين الإنسان وخالقه، لتضفى على العمل أهمية كبيرة، حيث ينتفع المرء فى دنياه بعمارتها وفى أخراه بوجود أجره وثمرته الأبدية؛ ولذلك وردت الآيات المستفيضة فى اقتران العمل بالإيمان مع بيان جزائه عند الله، فقال سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]؛ بل أمر اللهُ تعالى المسلمَ بالعمل ولفت نظره إلى أهمية عمله حتى إنه ليكون تحت نظر الله وخاصته من الأنبياء والمصلحين، فقال عز وجل: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة: 105].

وحين دعا الإسلام أتباعه للسعى فى الأرض وإدراك قيمة العمل أراد منهم أن يكونوا بناة حضارة ودعاة واعين ومخلصين لفقه الحياة الذى يبنى ولا يهدم، ويعمِّر ولا يدمر، ويتكامل مع الكون والناس ولا يتصادم؛ بل جعل الغاية من العمل هى نفع الناس والتعايش مع الآخر، وزاد على ذلك بأن جعل خيرية المؤمن مرتبطة بتحقيق تلك الغاية النبيلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ إِلْفٌ مَأْلُوفٌ، وَلَا خَيْرَ فِى مَنْ لَا يُؤلفُ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ» [أخرجه القضاعى فى مسنده 1/108]، وضرب النبى صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة فى تطبيق هذا المعنى فلم يميز نفسه عمن حوله، فكان يشارك فى كل الأعمال، حتى قال قولته المأثورة عندما اشترك بعض صحابته فى طهى طعام وتجهيزه، فقال: «وأنا علىَّ جَمْع الحطب».

وبهذه القدوة ربَّى النبىُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه، واستخرج منهم الطاقات الإيجابية التى تبنى الإنسان والبنيان، وتعمِّر الراكع وتنشئ الصانع، وتقوم عليها الدول والحضارات، من خلال بذل الوُسْع والتضحية بالجهد ومعرفة قيمة الوقت وإدراك غاية العمل وأهميته، فيرخص له كل نفيس ويُنفَق فيه كل عزيز، خاصة من الشباب المعقود عليهم الأمل، والذين هم أساس بناء المجتمعات وقيام الحضارات وبقاء الدول، وخير مثال على ذلك ما كان من عمار بن ياسر عند بناء أول مسجد، وقيل إبان تشييد الخندق، فعَنِ ابْنِ أَبِى الْهُذَيْلِ، أَنَّ عَمَّارًا، كَانَ رَجُلًا يَنْقُلُ حَجَرَيْنِ حَجَرَيْنِ، فَلَقِيَهُ النَّبِىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَفَعَ فِى صَدْرِهِ وَجَعَلَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْ صَدْرِهِ وَعَنْ رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «وَيْحَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغية»[أخرجه الحارث فى مسنده 2/924].

ولم يقف الأمر عند الشباب من الرجال فى بناء الدولة، بل كان للنساء نصيب فى هذا البناء وذلك العطاء؛ إذ تشييد الحضارات وعمل الأمجاد لا يعرف التفرقة بين جنس وآخر، بل أثبت أن التعاون والتكامل بين الجنسين خير ما تقوم وتزدهر عليه المجتمعات الراقية والأمم الحاضرة، ليكون البناء ملكاً للجميع فيحافظ عليه الرجل والمرأة والصغير والكبير. وقد ورد عن عبدالله بن أبى أوفى، رضى الله عنه قال: لما توفيت امرأته جعل يقول: «احملوها وارغبوا فى حملها، فإنها كانت تحمل ومواليها بالليل حجارة المسجد الذى أسس على التقوى، وكنا نحمل بالنهار حجرين حجرين» [رواه البزار فى مسنده 8/291].

إنه من أصيل القول وأساسه أن الإسلام دعا إلى بناء المجتمعات من خلال ثنائية متكاملة وفاعلة فى عقيدة المسلم وعمله وسلوكه، ألا وهى أهمية الأخذ بالأسباب فى التحضر وتوفير وسائل نفع الناس وإسعادهم، مع تعلق القلب بمسبِّب الأسباب الذى جعلها موصلة لنتائجها، ولذلك نقل ابن القيم أن: «الالتفات إلى الأسباب شرك فى التوحيد، ومحو الأسباب - أن تكون أسباباً - تغيير فى وجه العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية: قدح فى الشرع، والتوكل معنى يلتئم من معنى التوحيد والعقل والشرع».

ولعل من نافلة القول أن نقول إن المصرى له خصوصية على مر التاريخ فى بناء الحضارة الإنسانية على مر التاريخ الإنسانى، وخير شاهد لذلك شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجناده، فقد قال فى الحديث الصحيح: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا منهم جنداً كثيفاً فإنهم خير أجناد الأرض»، وفى رأيى أن لفظ الجند هنا يمكن أن يتسع ليشمل مجالات الجهاد الحضارى فى الإسلام الذى لا يقف عند حدود القتال فى ميدان الحرب، بل يشمل ميدان الجهاد فى بناء الإنسان والأوطان، ولا نحتاج إلى بذل جهد كبير فى التدليل على قدرة المصريين على ذلك كله، فالتاريخ خير شاهد وخير دليل.

إن بناء المجتمعات وتحقيق المشروعات الكبرى – كما رأينا فى باكورة الأمل بافتتاح قناة السويس الجديدة – يتوقف على فهم المعانى السابقة كلها، بما تشمله من رؤية واضحة للواقع وفكر متعلق باستشراف مستقبل أفضل للأجيال الحاضرة واللاحقة، كل ذلك فى منظومة متكاملة من الاعتقاد الصحيح والعمل المليح والقدوة الحسنة التى تبنى إنساناً قبل أن تشيد بنياناً.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية